|إبراهيم صموئيل|
لطالما سُئل الكاتب العربي: هل تكون سلطة الرقيب الخارجي أو الداخلي معك أثناء الكتابة؟ على الأغلب يكون جواب الكتّاب: لا! وعلى الأغلب يضيفون إلى نفيهم القاطع تأكيداً يفيد بأنهم حين يدخلون غرف كتاباتهم، فإنهم يتحررون من كل وصاية ورقابة وسلطة داخلية أو خارجية.
ويبدو أن في محتوى هذا الجواب ما يغري الكاتب بتبنيه درءاً لأي ظنٍّ أو اشتباه لدى القارئ، بأن نصّه مشوب بالخوف والقلق والمحاذرات، الأمر الذي يُضعف من انتسابه الصادق إلى صاحبه انتساباً كاملاً، أو يضع الكاتبَ، الذي يُفترض أنه صاحب قلب شجاع لا يتهيّب، موضعَ المداري أو المجامل أو... الممتثل!
بعض الكتّاب ينفون ولكن في الاتجاه المعاكس إذ يؤكدون أن الرقيب الخارجي، في عالمنا العربي، موجود وحاضر دوماً، سواء في مؤسسات السلطة والأنظمة الحاكمة، أو في المؤسسات الدينية، أو الأخرى الاجتماعية والتربوية وغيرها، بحيث لا يمكن للكاتب، بحال، إغفال وجوده أو تجاهل ممنوعاته وخطوطه الحمراء أثناء الكتابة، علاوة على وجوده في الرأس: داخل الدماغ، والخلايا العصبية والبنية النفسية.
وأحسب أن نفي وجود وتأثيرات الرقيب الخارجي أو الداخلي لدى الكاتب أثناء كتابته قولٌ مبالغ به «ولا أقول غير صادقٍ»، لغاية التعبير عن رغبة الكاتب برفع الرقابة عن قلمه، وإزاحة سطوتها وتأثيراتها السلبية عن أفكاره ونصوصه وإبداعه بعامّة، والتحرر تالياً من محظوراتها ثقيلة الظل.
وبالطبع، لا أعني بهذا انتفاء أي إمكانية لدى الكاتب في قيامه بضرب كل الرقابات بعرض الحائط، أو استحالة تجاوزه مختلف المحظورات، والإطاحة، في كتابته، بكل ما من شأنه التعبير الطليق عن أفكاره، أو التضييق على فضاءات رؤاه وحريته، والرمي بكل أنواع السلطات والرقابات والوصايات خارج مكتبه والدخول إلى أوراقه مبرّأً متحرراً طليقاً. بإمكان الكاتب ألا يأبه بكل المحظورات الرقابية والمحرّمات الاجتماعية وبكل عثرة في وجه تعبيره من أي نوع كان... ولكن بعد أن يضرب بعرض الحائط أيضاً كلَّ العواقب والنتائج والتبعات من أي نوع كان!
إلى هنا، سيبدو الموضوع - على أرض الواقع - أشبه بالانتحار. فذهاب الكاتب إلى أقصى الحدود من حريته يعني احتمالاً كبيراً لعواقب في حدودها القصوى. والكاتب- كي لا ننسى- بشرٌ من لحم ودم، علاوة على أمر آخر وهو أن الرقابة، خصوصاً الداخلية، يتمّ تشرّبها، في عالمنا العربي، مع حليب الأمهات. المحظورات والمحرّمات والممنوعات وما إلى ذلك ليست رداءً نخلعه قبل دخولنا «حمّام الكتابة». ليست غرضاً نركنه جانباً لنلتفت بكليتنا إلى أفكارنا ومفاهيمنا ورغباتنا وطموحاتنا بغية التعبير عنها على نحوٍ حرٍّ تماماً. هي في الصميم من التربية والتنشئة: في البيت والمدرسة والشارع والعمل والحارة والقرية والمدينة والبلد. وهي في اللبّ من تكوين البنية النفسية والتنمية العقلية.
حذف الرقابات والوصايات والمحظورات من الداخل ممكن نظرياً، أما عملياً فهي تسكن فينا، وتتغلغل في أرواحنا، وترافقنا يوماً بيوم، وسلوكاً بسلوك، فتتسلط علينا، وتهيمن على أدمغتنا، وتسير مع مجرى الدم. نحن وُلدنا تحت وطأة وسطوة مختلف الرقابات والمحرمات- بالمعنى العريض العميق للكلمة - منذ مئات السنين. توارثنا الهلع والخوف والخشية والتواري والتحسّب والتداري والمحاذرة والتنبّه والتيقّظ والتقيّة والتحوّط... مع رشفات الحليب وزمر الدم منذ مئات السنين أيضاً. وربما نحتاج لتنقية دمائنا منها، ومجتمعاتنا وسلطاتنا الحاكمة من سيوفها المصلتة على كل وجودنا إلى مئات السنين أيضاً. وحتى ذلك اليوم سنجاهد هنا، ونحاول هناك، نجرب ونغامر ونسعى... لكننا لسنا براء منها، ولا هي خارج وجودنا العضوي والنفسي، وإنْ توهّمنا ذلك!
لطالما سُئل الكاتب العربي: هل تكون سلطة الرقيب الخارجي أو الداخلي معك أثناء الكتابة؟ على الأغلب يكون جواب الكتّاب: لا! وعلى الأغلب يضيفون إلى نفيهم القاطع تأكيداً يفيد بأنهم حين يدخلون غرف كتاباتهم، فإنهم يتحررون من كل وصاية ورقابة وسلطة داخلية أو خارجية.
ويبدو أن في محتوى هذا الجواب ما يغري الكاتب بتبنيه درءاً لأي ظنٍّ أو اشتباه لدى القارئ، بأن نصّه مشوب بالخوف والقلق والمحاذرات، الأمر الذي يُضعف من انتسابه الصادق إلى صاحبه انتساباً كاملاً، أو يضع الكاتبَ، الذي يُفترض أنه صاحب قلب شجاع لا يتهيّب، موضعَ المداري أو المجامل أو... الممتثل!
بعض الكتّاب ينفون ولكن في الاتجاه المعاكس إذ يؤكدون أن الرقيب الخارجي، في عالمنا العربي، موجود وحاضر دوماً، سواء في مؤسسات السلطة والأنظمة الحاكمة، أو في المؤسسات الدينية، أو الأخرى الاجتماعية والتربوية وغيرها، بحيث لا يمكن للكاتب، بحال، إغفال وجوده أو تجاهل ممنوعاته وخطوطه الحمراء أثناء الكتابة، علاوة على وجوده في الرأس: داخل الدماغ، والخلايا العصبية والبنية النفسية.
وأحسب أن نفي وجود وتأثيرات الرقيب الخارجي أو الداخلي لدى الكاتب أثناء كتابته قولٌ مبالغ به «ولا أقول غير صادقٍ»، لغاية التعبير عن رغبة الكاتب برفع الرقابة عن قلمه، وإزاحة سطوتها وتأثيراتها السلبية عن أفكاره ونصوصه وإبداعه بعامّة، والتحرر تالياً من محظوراتها ثقيلة الظل.
وبالطبع، لا أعني بهذا انتفاء أي إمكانية لدى الكاتب في قيامه بضرب كل الرقابات بعرض الحائط، أو استحالة تجاوزه مختلف المحظورات، والإطاحة، في كتابته، بكل ما من شأنه التعبير الطليق عن أفكاره، أو التضييق على فضاءات رؤاه وحريته، والرمي بكل أنواع السلطات والرقابات والوصايات خارج مكتبه والدخول إلى أوراقه مبرّأً متحرراً طليقاً. بإمكان الكاتب ألا يأبه بكل المحظورات الرقابية والمحرّمات الاجتماعية وبكل عثرة في وجه تعبيره من أي نوع كان... ولكن بعد أن يضرب بعرض الحائط أيضاً كلَّ العواقب والنتائج والتبعات من أي نوع كان!
إلى هنا، سيبدو الموضوع - على أرض الواقع - أشبه بالانتحار. فذهاب الكاتب إلى أقصى الحدود من حريته يعني احتمالاً كبيراً لعواقب في حدودها القصوى. والكاتب- كي لا ننسى- بشرٌ من لحم ودم، علاوة على أمر آخر وهو أن الرقابة، خصوصاً الداخلية، يتمّ تشرّبها، في عالمنا العربي، مع حليب الأمهات. المحظورات والمحرّمات والممنوعات وما إلى ذلك ليست رداءً نخلعه قبل دخولنا «حمّام الكتابة». ليست غرضاً نركنه جانباً لنلتفت بكليتنا إلى أفكارنا ومفاهيمنا ورغباتنا وطموحاتنا بغية التعبير عنها على نحوٍ حرٍّ تماماً. هي في الصميم من التربية والتنشئة: في البيت والمدرسة والشارع والعمل والحارة والقرية والمدينة والبلد. وهي في اللبّ من تكوين البنية النفسية والتنمية العقلية.
حذف الرقابات والوصايات والمحظورات من الداخل ممكن نظرياً، أما عملياً فهي تسكن فينا، وتتغلغل في أرواحنا، وترافقنا يوماً بيوم، وسلوكاً بسلوك، فتتسلط علينا، وتهيمن على أدمغتنا، وتسير مع مجرى الدم. نحن وُلدنا تحت وطأة وسطوة مختلف الرقابات والمحرمات- بالمعنى العريض العميق للكلمة - منذ مئات السنين. توارثنا الهلع والخوف والخشية والتواري والتحسّب والتداري والمحاذرة والتنبّه والتيقّظ والتقيّة والتحوّط... مع رشفات الحليب وزمر الدم منذ مئات السنين أيضاً. وربما نحتاج لتنقية دمائنا منها، ومجتمعاتنا وسلطاتنا الحاكمة من سيوفها المصلتة على كل وجودنا إلى مئات السنين أيضاً. وحتى ذلك اليوم سنجاهد هنا، ونحاول هناك، نجرب ونغامر ونسعى... لكننا لسنا براء منها، ولا هي خارج وجودنا العضوي والنفسي، وإنْ توهّمنا ذلك!