|السويد - من سلام إبراهيم|
حاول الروائي العراقي جنان جاسم حلاوي في روايته الرابعة «أماكن حارة»- الصادرة عن دار الآداب في بيروت- الخروج من دائرة روايات السيرة بالدخول إلى حيز الرواية التاريخية المتتبعة لمصائر نماذج منتقاة من التاريخ العراقي المعاصر منذُ بداية القرن العشرين، أواخر فترة الاحتلال العثماني حتى الاحتلال الأميركي للعراق 2003، ما فرض بنية روائية مختلفة عن بنى رواياته السابقة، فبعدما كانت رواياته معنية بالمصير الفردي للشخصية المحورية، إذ يتتبع السرد مسار حياتها في مقطع التجربة التي أنتقاها الكاتب كما في «ليل البلاد» و«دروب وغبار» الصادرتين أيضا عن الآداب. نجده هنا في رواية «أماكن حارة» يبني رواية متعددة الأصوات منتقيا نماذج من مختلف مكونات المجتمع العراقي، مركزا على شخصية محورية «حمدان» يبدأ معه منذ الفصل الأول «الاغتيال» إذ يبدأ السرد في بيت خضير «والده»، الذي هو عبارة عن كوخين من الطين والقصب، المكلف باغتيال الوالي التركي من قبل زعيم البصرة وقتها كامل النقيب المتمرد على سلطة الباب العالي، فيصور السرد تلك اللحظات في تناوب مع طلق زوجته «بدرية» بـ «حمدان» الذي يرى النور في نفس ليلة تنفيذ الاغتيال. ويبقى النص يلاحق مصير حمدان من هذه اللحظة حتى شيخوخته ونهاية النص. وهذا خيط السرد الرئيسي.
ينتقل في الفصل الثاني «جبل معتم تحت سماء شمالية» لإرساء بنية شخصية أخرى رئيسية في السرد تتوازى مع عائلة حمدان، هي شخصية الكردي «مصطفى» فمن خلال مقهى في مدينة «السليمانية» يشرع السرد في تصوير تلك الأمكنة وبشرها قبل التركيز على الشخصية المذكورة التي تلبي نداء القائد الكردي «محمد البرزنجي» للجهاد ضد الغزاة الانكليز فيسافر إلى البصرة ليقاتل هناك فيؤسر وينفى إلى جزيرة «هنجام» وهناك سيتعرف في الأسر على ابن مدينته «آزاد» وهذا الخيط السردي الرئيسي الثاني في النص يتتبعه الكاتب حتى نهاية النص أيضاً.
ينتقل في الفصل الرابع «خفق أجنحة في مياه مفتوحة» مصورا في فصل من أجمل فصول الرواية عملية هرب العاشق «ياسين» الساكن في عمق الهور مع حبيبته «فاطمة» بعد أن رفضت عشيرتها تزويجها له، فينسلا تحت جنح الظلام بقارب، ليصلا مع الفجر لأرياف مدينة «القرنة» ليستقلا عربة تصل بهما إلى المدينة، ثم بواسطة مركب إلى البصرة مقابل مسدس للقبطان، في نفس الوقت الذي يدخل فيه الانكليز البصرة. وهذا خيط السرد الرئيسي الثالث في الرواية.
ينمي السارد هذه الخطوط السردية الثلاثة بطريقة متوازنة متدرجا خطوة... خطوة من بدايات الإحتلال الأنكليزي للبصرة أوائل القرن الماضي إلى الاحتلال الأميركي- الأنكليزي لنفس المدينة 2003، ومن خلال تتبع المصائر والأحداث لهذه الشخصيات وما تشجّرَ حولها من شخصيات مهمة وفاعلة في التاريخ السياسي العراقي المعاصر يكون الكاتب قد سرد علينا تطورات الأوضاع السياسية والاجتماعية مركزا على مدينة الكاتب البصرة منفذ العراق الوحيد على البحر.
الشخصيات الثانوية كانت شديدة الحيوية، كشخصية الدكتور سركيسيان الأرمني الشيوعي الذي يتعرف عليه الشخصية المحورية في خط السرد الأول حمدان حينما يستنجد به وقت تفشي وباء الكوليرا بالبصرة كي ينقذ أمه بدرية المصابة بالملاريا ومن هنا تنشأ علاقة بينهما تحدد مصير ووجهة حياة حمدان لاحقا حينما يكسبه للعمل في تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي السرية.
وشخصية حيدر الذي يتعرف عليه حمدان في سجن نقرة السلمان المنفى الصحراوي على الحدود العراقية السعودية عندما ينكشف التنظيم، وشخصية آزاد الكردي الذي يتحول إلى شيوعي صلب وبسبب ذلك يلقي حتفه، والعديد من الشخصيات الأخرى المتمحورة حول خطوط السرد الثلاثة التي أشرنا إليها.
لم يترك الكاتب هذه الخطوط السردية سائبة بل داخلها مع بعضها البعض عبر تطورات الأحداث من خلال الربط فيما بينهما بطريقة معقولة أدت لها الأحداث، أعني لم يقسر العلاقات بل بدت نتيجة طبيعية، فقد جعل حمدان وعن طريق سركيسيان الطبيب يتعرف على آزاد الكردي الذي يعمل معه في التنظيم، ويحصل على عمل بتدريس بنت مصطفى مريم الانكليزية ليقترن بها، وبذلك ظفر الخط السردي الأول بالثاني. أما خط القروي ياسين الهارب وزوجته فاطمة فيجعلهما يعملان لاحقا لدى مصطفى الذي طور تجارة التوابل مع الهند والتي تعلمها في الأسر، ليقتل ياسين لاحقا ثأرا من قبل عشيرة زوجته، فيتزوج مصطفى فاطمة - ويحل المشكلة عشائريا. وبذلك تكون خطوط السرد الثلاثة قد امتزجت معا ما أعطى للنص تلك المتانة التي تميزت بها الروايات التقليدية أول نشوء الرواية كنوع أدبي.
النص الطويل مشغول بعناية يسيح بالقارئ من خلال شخوص بدت حيةً على تطورات البشر والأمكنة طوال فترة النص، فخضير الذي يعمل نقاشا يموت مقتولا لمنافس عمل، فتثأر زوجته له وتقتل القاتل أمام أنظار حمدان الذي يكمل دراسته ويصبح معلما ويعمل بالسياسة ويسجن ويحاربه حزبه كون أيدَّ اعترافات عليه. شريحة حمدان شريحة مهمة في التاريخ العراقي أثناء المد اليساري، فكثير من العراقيين تحمسوا للعمل في صفوف الحزب الشيوعي ليدفعوا الثمن غاليا لاحقا في خضم الصراع الدموي على السلطة لاحقا، إذ سيتحول حمدان إلى رجل يخاف من ظله بعد أن حكموا العراقيين أنفسهم وراحوا ينقلبون على بعضهم ويغطون بدماء بعضهم في صراع البعث والشيوعي الذي عرضت له الرواية.
النص من جانب آخر سجل دقيق لتاريخ البصرة السياسي، وتحولاتها، إعدام - سركيسيان - الشيوعي وتعليق جثته زمن الحكم الملكي، استلام السلطة من قبل العسكر ومجيء الزعيم عبد الكريم قاسم بدعم من الشيوعيين وتعليقهم للمعارضين في الشوارع، الانقلاب عليه من قبل عبد السلام عارف والبعث، المرور بمجازر الحرس القومي، انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين، ثم إعدام - عزرة ناجي زلخة - وجماعته اليهود بحجة التجسس لصالح اسرائيل، وتعليق جثثهم في ساحة أم البروم زمن عودة البعث إلى السلطة ثانية 1968. رصد كل التمزقات التي ألمت ببنية المجتمع العراقي خلال قرن.
ووصف دقيق لتطورات مدينة البصرة العمرانية خلال زمن النص وأمكنتها المختلفة أنهارها، محلاتها، بساتينها، أريافها، مضاف إلى مكانين هامشيين في النص هما السليمانية و الحيدر خانة - في بغداد عبر شخصيتي مصطفى وآزاد.
ينحاز الكاتب في هذا النص تماماً إلى بنية الرواية التقليدية المتعددة الأصوات التي أرساها رائد الرواية الواقعية العراقية غائب طعمة فرمان فالبنية التي أشرت إليها في خطوط السرد وظفرها معا استخدمت منذ نشوء الرواية. اعتمد الكاتب غالبا الضمير الثالث في السرد لم يكتفِ بذلك بل عمد في كثير من المواقع إلى توجيه الخطاب مباشرة للقارئ كان يقول في ص17:
«لو تأملنا المكان فلن نجد شيئاً ذو بال، ولكننا في كلّ حال... إلخ».
أو في ص 206:
«نضيف إلى ذلك كلّه عزيزي القارئ أسلوب الدكتور الجذّاب في الحديث».
أو يتدخل الكاتب مباشرة بالسرد ذاكرا اسمه في محاولة لكسر رتابة السرد وتذكير القارئ أن النص مجرد رواية يسردها كاتب لا تاريخ حقيقي للشخصيات، رغم أن سياق السرد يقول عكس ذلك تماما، إذ أن بنية رواية الأحداث المتدرجة مهتمة بأوضاع العراق السياسية والاجتماعية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى، وشخصيات تلك الأحداث مذكورة بالاسم والتواريخ. أرى أن هذا التدخل يقطع مخيلة القارئ، الذي من المهم إيهامه بأن ما يقرأه من كلمات ووقائع هي حية لا مجرد كلمات يكتبها الكاتب؛ «قرر حمدان الاستفسار من جنان جاسم حلاوي مؤلّف هذه الرواية عن مفاتيح الوضع المعقد الغاطس فيه، لكنه تذكّر أنّ حلاوي يحتسي بيرته الآن، منفردا في مكان مجهول...»، ص224-225. ما يميز نصوص جنان جاسم حلاوي عن بنية رواية الرائد غائب طعمة فرمان هو لغة الروي النابضة بشعرية تميزه عن غيره من الكتاب، وتضفي على نصه شيئا سحريا خاصا لخلقها مناخا اسرا يحيط بشخوص الرواية، يضاف لذلك ذلك الوله في تفصيلات الكائنات في المكان من حيوانات وحشرات وأشجار وألوان ومواسم بحيث ينبعث من المقطع المسرود روائح وألوان وأصوات وصمت تضع القارئ في وسط المناخ فيعيشه، فالوصف لديه غير تقليدي، فيكون لوقع تصوير وصول القطار مثلا إلى المدينة حرارة عملية المضاجعة:
«تنطلق صفرة أخيرة صاخبة. تندفع المدينة وتحتضن القطار الوالج عمقها فائراً» ص107.
كما يوظف حركة الحدث ليزخ التاريخ العراقي عبر الأمكنة، فمثلا عن مبيت آزاد ومصطفى في بغداد عند عودتهما من الآسر في الهند في بناية الجامعة المستنصرية المتحولة في زمن الاحتلالات إلى مجرد خان لمبيت المسافرين، فيضخ شيئا من تاريخ نشأتها ونسيانها بعد اجتياح المغول وشنق علمائها:
«تلك هي أمكنة مهجورة. من عصور عبّاسية ممزقة وغابرة. تركها الحاضر متواريا بعيدا عنها. طمسها النسيان، فاكتست غرفها وردهاتها وممراتها القديمة بالوحشة والعزلة والغبار» 108.
يؤكد هذا النص أن علاقة الرواية بالتاريخ هي علاقة عضوية، وبالنسبة للتاريخ العراقي المعاصر المضطرب تعتبر أمرا حيويا لأحياء حيوات العراقيين الذين عاشوا وسط تلك العواصف والحروب وتحت استبداد السلطات العراقية المختلفة في أزمان الاحتلالات والأزمان الوطنية، بعيدا عن التدوين التاريخي المحايد المهتم بمجريات الأحداث السياسية وقادتها بكل ما يحويه من الزيف. وبذلك يضع الروائى لبنة جديدة في بناء عالمه الروائي الرحب وأسلوبه الخاص الذي يميزه دون سواه من الروائين العراقيين والعرب. بقى لدي ملاحظتين ضروريتين، الأولى تتعلق بدقة الأحداث والاسماء التاريخية، اتمنى أن تصحح فيما لوطبعت الرواية طبعة ثانية:
1 - ففي ص 298 يصور الكاتب صبيحة 14 يوليو 1958 واحتلال الجماهير الشارع وهذا دقيق، لكن طبيعة الهتافات لا يتناسب مع تاريخ الحدث المذكور، فهتافات الشيوعيين «إعدم... إعدم... جيش وشعب وياك يا قائد الثورة»، و«ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة»، شعارات أطلقت عام 1959 بعد القضاء على محاولة الشواف الانقلابية في الموصل لا في صبيحة اليوم المذكور.
2 - في ص 334 يصور الكاتب عودة البعث إلى السلطة ثانيا 1968 عبر بيان مجلس قيادة الثورة يبث من الإذاعة، يعلن فيه عن تولي أحمد حسن البكر معلنا سقوط سلطة العقيد عبد السلام عارف والأصح سقوط أخيه عبد الرحمن عارف فعبد السلام مات بحادث طائرة عام 1966 سقطت أثناء عودته من البصرة إلى بغداد.
الملاحظة الثانية تتعلق في شدة ابتسار احداث العراق، إذ بدت الفترة من 1958 إلى 2003 ملخصة بشدة في الوقت الذي تمثل فيه هذه السنوات أهم أحداث العراق الدموية المعاصر، وما أدت إليه من خراب، بالعكس من السرد التفصيلي والممتع الذي صورته الرواية للفترة من نهاية العصر العثماتي حتى التاريخ المذكور.
وأخيرا لا بد من ذكر حقيقة مرّة هي أن نصوص جنان جاسم حلاوي ونصوص غالبية الكتاب العراقيين المهمة المكتوبة في المنفى لا تتوافر لدى القارئ العراقي داخل العراق. ولم تهتم الحكومات الطائفية في عراق ما بعد الاحتلال بكل هذا الكم الكبير من النص العراقي التي سجلت بأمانه ما جرى للعراقي زمن الحروب والقتل والتمزق والخراب.