لا يمكن، نظرياً على الأقل، اعتبار تصويت نسبة تفوق النصف من الناخبين السويسريين لفائدة قانون يمنع بناء مآذن المساجد بهذا البلد، بمثابة تحول كارثي في تدبير الجانب الديني والثقافي في ملف مهاجري أوروبا، أو بخصوص العلاقة المرتبكة أصلاً بين الغرب من جهة وإسلامه ومسلميه من جهة أخرى، أو حتى بما قد يحيل على إشكالية حضور الرموز المعتبرة دينية بالفضاء العام الغربي، تحديداً الأوروبي.
تعيش هذه الرموز معركة وجودها منذ زمن بعيد نسبياً، ليس على مستوى العالم الغربي فقط، بل وعلى امتداد بعض بلدان العالم الإسلامي الذي يشكل مصدر الغالبية من مسلمي الغرب (هل يجب التذكير هنا بالخطوات التي اتخذتها تونس وتركيا في اتجاه حظر الحجاب في المؤسسات العمومية؟). أما علاقة الغرب بالإسلام فليس بالأصيل القول بأن طائرات الحادي عشر من سبتمبر قد دمرت مع برجي مانهاتن الشجرة التي كانت تحجب تاريخاً طويلاً من التوتر والتوجس. أما عن تدبير ما يُسمى بالاندماج الثقافي والديني للمهاجرين، فالأزمة واردة لا محالة في ظل اعتقاد غالبية المهاجرين الشرقيين بإمكانية الفصل بين رفاهية الغرب المعيشية ونموذجه الثقافي، واعتقاد غالبية الغربيين بإمكانية جلب سواعد المهاجرين من دون ثقافتهم واعتقاداتهم.
ومع ذلك فقد تشكل معركة المآذن بسويسرا بالنسبة إلى المهتمين بالإشكاليات المذكورة مجالاً خصباً لإعادة تحيين تصوراتهم وآرائهم وفق مختلف سياقاتها وتداعياتها. ولعل أول ما يثير الاهتمام في المعركة المذكورة سياق حدوثها. لقد قدمت سويسرا عن نفسها خلال أطوار هذا المسلسل صورة بلد يخوض حرباً بالوكالة، فلقد كان مستغرباً ألا تحدث معركة المآذن في بلد يعيش أزمة مركبة على مستوى تدبير الاختلاف الديني المعقد الناجم عن تاريخ طويل من استقبال وتوطين المهاجرين كفرنسا أو هولندا مثلاً.
مازالت سويسرا جنة أوروبا، وهي ليست بأي حال وجهة مفتوحة أو حتى ممكنة أمام المهاجرين القادمين من الجنوب. وسواء كانوا مسلمين أو غير ذلك فإن مهاجري سويسرا أبعد ما يكونون عن الصورة التقليدية للمهاجر الأفريقي أو الآسيوي بأوروبا، فهم في جملتهم مؤهلون من جامعات ومعاهد أوروبا، بما جعلهم يحملون في نهج سيرهم ما سمح لهم بالاستقرار في جنة أوروبا.
هذا كله يجعل من أي نقاش على المشاكل المتولدة عن ظروف اندماج المهاجرين في مجتمعات الاستقبال أمراً هامشياً بهذا البلد مقارنة ببؤر التوتر التقليدية في هذا المجال، وفي مقدمتها، كما ذكرنا، فرنسا وهولندا. وفق هذا، ألا يمكن اعتبار حظر بناء المآذن بسويسرا بمثابة إجابة عن أسئلة غير مطروحة على الأقل في الوقت الراهن وفي المستقبل القريب لسويسرا؟
النقطة الثانية التي قد يمكن استخلاصها من معركة المآذن بسويسرا تشكل، من وجهة نظرنا، الجزء الصادم في هذه القضية. لقد استطاع حزب يميني متطرف أن يدفع بما يتجاوز نصف ناخبي بلد أوروبي باتجاه التصويت على قانون مثير للجدل بخصوص أقلية دينية بهذا البلد. لقد ولى إذاً الزمن الذي كانت فيه أحزاب اليمين المتطرف مجرد أحزاب أقلية تفتقد لأي تأثير سياسي بالمجتمعات الغربية. على العكس من ذلك، فقد أظهر الحزب المعني بسويسرا فعالية كبيرة في مجال تأطير الرأي والسلوك السياسيين للناخب السويسري على هامش معركة المآذن. هذا الصعود المخيف لأحزاب اليمين المتطرف، ألا يدفع للتساؤل عن مستقبل ميراث فكر الأنوار بأوروبا؟
إضافة إلى الطابع الديني، السياسي والاجتماعي للنقاشات المصاحبة لهذه القضية، فقد أثارت معركة المآذن بسويسرا إشكالية فلسفية عميقة تهم حدود الديموقراطية وتطبيقاتها، ذلك أن الممارسة الديموقراطية التي من البدهي أن تشكل صمام أمان حفظ وتثبيت حقوق الإنسان قد تم توظيفها لمصلحة تصفية أحد الحقوق الإنسانية الأساسية المتمثل في الحق في الاختلاف الديني والثقافي. لقد شكلت المنهجية الديموقراطية المتمثلة في طرح الأمر للاستفتاء حجة من كانوا وراء القانون المذكور ومن اعتقدوا بمشروعيته، لكنها قد تكون شكلت، وبشكل مفارق، نقطة الضعف الأساسية أيضاً.
إن سويسرا أبعد ما تكون عن جمهوريات الموز التي تختزل فيها الديموقراطية في عملية التصويت. أي أنه من البدهي أن تتعدى الممارسة الديموقراطية بها مجرد الذهاب إلى صناديق الاقتراع والإدلاء بالأصوات لمصلحة أو ضد قانون معين إلى مجال صناعة الرأي العام والسلوك السياسي للمواطنين. هذا الأمر تلعب فيها التنظيمات السياسية دوراً مهماً من خلال أدوات التأثير المتمثلة أساساً في وسائل الإعلام.
في هذا السياق، يكتسب التساؤل بخصوص تفاصيل ما حدث بسويسرا مشروعيته. أما الأسئلة الأكثر إلحاحاً بهذا الخصوص فتتعلق بأدوات التأثير هذه. فإلى أي حد كانت وسائل الإعلام السويسرية موضوعية ومنصفة في التعاطي مع المسألة بما يمكن من صناعة الرأي العام بطريقة عادلة وموضوعية؟ إلى أي حد تم احترام مبدأ الرأي والرأي المخالف الذي يعد عصب الممارسة الديموقراطية؟ بصيغة أخرى، هل حصل أنصار هذا الموقف أو ذاك على نصيبهم العادل في التعبير عن موقفهم والترويج له؟
أما إذا ابتعدنا عن التفاصيل المذكورة فسنجد في عمق معركة المآذن بأوروبا أحد أهم الإشكالات التي تخص مجال تدبير الاختلاف الديني وحقوق الأقليات بالغرب، تلك التي تتعلق كما أسلفنا بحضور الرموز المعتبرة دينية بالفضاء العام الغربي، الأوروبي تحديداً. لكن المثير في الأمر هذه المرة هو خروج مجال النقاش واتخاذ القرار من هامش النخب الفكرية الواعية بالتعقيدات الكثيرة المحيطة بأمر كهذا إلى مجال عموم المجتمع.
إن أمراً كهذا ليس من شأنه، من وجهة نظرنا، سوى تهديد أفق التعايش الديني والثقافي الذي يشكل الضمانة الأساسية لتدبير المجال العام الغربي في سياق البلقنة الدينية والثقافية المتولدة عن الهجرة. وتسويق هذه النقاشات من طرف أنصاف المختصين بطريقة تحريضية إلى عامة الناس لن يؤدي إلا إلى مزيد من تغذية مشاعر الحقد والكراهية تجاه كل ما هو غريب ومختلف عما تنتجه مجتمعات الاستقبال. نختم في هذا الإطار بالتساؤل عن عدد الناخبين السويسريين الذين ذهبوا إلى التصويت، وهم قادرون على التمييز بين المئذنة والبناء الكلي للمسجد. بصيغة أخرى ألم تكن أوراق الـ «النعم» الكثيرة التي وضعها أكثر من نصف الناخبين السويسريين موجهة في حقيقة الأمر للمساجد التي تمت شيطنتها ومرتاديها في سياق الخوف والتخويف الذي يعيشه الغرب إزاء ما أسماه صموئيل هنتغتون يوماً ما بالمد الأخضر؟ أما المآذن فتلك حكاية أخرى...


محمد فاضل رضوان
باحث مغربي في سوسيولوجيا الأديان في جامعة مونتريال الكندية، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية» www.minbaralhurriyya.org