على وقع الانتظار الثقيل في بيروت لِما بعد الجواب الرسمي الذي قدّمته على ورقة البنود الـ 12 الكويتية – الخليجية – العربية – الدولية حول الأزمة معها والذي ما زال «قيد الدرس» من دول مجلس التعاون قبل تحديد «الخطوة التالية»، توّجت الكنيسة المارونية في لبنان دعمها الذي سبق أن عبّرت عنه لهذه المبادرة بموقفٍ لا يحتمل أي التباس إزاء «أصل» المشكلة في «بلاد الأرز» و... معها.

وبعباراتٍ مباشرة، شدّد مجلس المطارنة الموارنة أمس على «وجوب المعالجة الحازمة للخلل الطارئ على العلاقات اللبنانية - الخليجية، بحيث يوضع حد نهائي للتدخلات في شؤون الأشقاء والأصدقاء»، مؤكدين أنهم «يرون في هذا الخلل مثلاً ساطعاً لحاجة لبنان الماسة إلى إعلان حياده، فلا يعود ساحة للتجاذبات الخارجية وتستقيم حياته السياسية نحو التركيز على حسن إدارة أوضاعه وتواصله مع الخارج القريب والبعيد».

واكتسب هذا الموقف أهميته لاعتبارات عدة، أبرزها:

• أنه جاء عقب الاجتماع الشهري للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي والذي التقى خلاله أمين سر الكرسي الرسولي للعلاقات بين الدول وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور ريتشارد بول غالاغير المجتمعين، وسط حرص البيان الختامي الذي صدر على تأكيد أن الأخير «يقوم بزيارة رسمية للبنان موفداً من البابا فرنسيس للتعبير عن قربه من الشعب اللبناني، وعنايته في شأن لبنان على المستوى الدولي».

• أن هذا الموقف يضع الإصبع مجدداً على ما تعتبره الكنيسة الخلل الرئيسي في علاقات لبنان الخارجية ولا سيما مع دول الخليج والمتمثّل في «التدخلات في شؤونها»، في غمز من قناة «حزب الله»، وهو ما اعتبرتْه أوساط سياسية «تكملة» للرسالة البابوية التي غلّف بها غالاغير زيارته وتقوم على «أن لبنان يجب أن يبقى مشروع سلام (...) وتوقفوا عن استخدام لبنان والشرق الأوسط من أجل المصالح الخارجية. ويجب أن يحظى الشعب اللبناني بفرصة لأن يكون بأبنائه مهندس لمستقبل أفضل على أرضه بعيداً من أي تدخل خارجي».

• أن مجمل مواقف المطارنة الموارنة وبينها ما أعلنوه أمس يحظى بغطاء كامل من الفاتيكان يكرّس التعاطي مع الأزمة في لبنان على أنها ذات وجه سياسي، ببُعديْن أوّلهما التدخل الخارجي في شؤون الوطن الصغير، وثانيهما تدخل أطراف فيه بشؤون دول شقيقة وصديقة، وأن معالجة هذا الجانب «العميق» من الأزمة يشكل المدخل لتفكيكها، هي التي عبّر البابا فرنسيس عن القلق بإزائها لِما ترتّبه على مصير لبنان ودوره ورسالته.

وفي موازاة هذا الشق من الأزمة اللبنانية الشاملة، لم يقلّ دلالة الإحاطة الكنسية للانتخابات النيابية المقبلة المقرَّرة بعد 100 يوم باعتبارها من أبواب التغيير و«التصحيح» السياسي عبر صناديق الاقتراع، وهو ما عبّر عنه تأكيد بيان المطارنة في موقف بدأ بإشارةٍ غير مباشرة إلى تعليق الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري عمله في الحياة السياسية أنهم يراقبون «التحولات السياسية الجارية في مراكز القرار عشية انطلاقة الإعداد الجدي للانتخابات النيابية، ويشددون على ضرورة الحؤول بينها وبين احتمالات تأثيرها سلباً على هذه الانتخابات كما الانتخابات الرئاسية، ويعوِّلون بذلك على وطنية اللبنانيين المخلصين، وعلى حكمتهم وحرصهم على أن تلبي الاستحقاقات الدستورية توق اللبنانيين إلى صيانة الحرية، والفوز بالأمن الراسخ وبالاستقرار المثمر».

وأتى هذا الموقف على وقع تعاظُم الخشية في بيروت من مناخاتٍ توحي بمحاولة «طبْخ» مقايضاتٍ و«صفقات» تطيح بالانتخابات النيابية وتالياً الرئاسية (موعدها خريف 2022)، والتي يدخل إجراؤها بمواعيدها في صلب المبادرة الخليجية بالتوازي مع تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة بسلاح «حزب الله» ووقف تحويل لبنان «منصةَ عدوان لفظي وفعلي» على دول الخليج.

ولم تَعُد دوائر متابعة تُخْفي القلق من مساعٍ لـ «تفخيخ» الاستحقاق النيابي بمعاودة الضغط على «لغم» اقتراع المغتربين والارتداد على الإبقاء على انتخابهم للنواب الـ 128 كل في دائرته لمصلحة إحياء الدائرة 16 أي تخصيص 6 مقاعد إضافية للمنتشرين، وهو المطلب الذي تتلاقى مصلحة «التيار الوطني الحر» (حزب الرئيس ميشال عون) و«حزب الله» عليه، الأول لتفادي «عاصفة تصويت» تصب في غالبيتها ضدّه بما يزيد من متاعبه الانتخابية ويستنزف حظوظ رئيسه جبران باسيل الرئاسية، والثاني للإبقاء على «حدود مضبوطة» لأي خسارةٍ للأكثرية التي يُمسك بها مع التيار وحلفائهما في البرلمان الحالي، وسط اقتناعٍ بأن أي محاولة عبر مجلس النواب لمعاودة البحث في هذه القضية سيكون كفيلاً بإيجاد تعقيدات تتصل بالمهل وغيرها تنسف الانتخابات برمّتها، علماً أنها باتت في دائرة «التدويل» أقلّه لجهة رسم خط أحمر خارجي حول أي مساس بمواعيدها.

وفي حين كان رئيس حزب «القوّات اللبنانيّة» سمير جعجع، يضع المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان يوانا فرونتسكا «في أجواء آخر المحاولات الجارية للاطاحة بالاستحقاق الانتخابي عن طريق إعادة فتح موضوع اقتراع المغتربين»، برزت أجواء تساءلت هل يكون ملف الإطاحة بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي يتمسك به الرئيس عون وفريقه هو مدخل المقايضة مع رئيس البرلمان نبيه بري الذي يرفض (كما الرئيس نجيب ميقاتي) إقالة سلامة، وذلك على قاعدة تسهيل إحياء الدائرة 16 مقابل «تنويم» ملف «الحاكم»، رغم الانطباع بأن مثل هذه «الصفقة» قد لا يكون بري بحاجة للدخول في «أثمانها» باعتبار أن المساس بسلامة عبر مجلس الوزراء غير متاح، كما أن المسار القضائي بحقه دونه تعقيدات كبرى.

وكرّر عون أمس، التصويب على سلامة ضمناً «مصيباً» أكثر من طرف أيضاً، باعتباره أن «ما يحصل اليوم في الموضوع المالي يهدف الى تحميل المودعين أعباء أخطاء الآخَرين، وهذا أمر مرفوض ومن المستحيل أن يتمكن من غَدَر البلد من إصلاح الأوضاع، وعندما نطالب حاكمية مصرف لبنان بإعطاء المعلومات المطلوبة لإتمام التحقيق الجنائي، نتعرض للهجوم من جهات معروفة لا تريد للتحقيق أن يصل إلى نتائج واضحة وتحميل المسؤولية لمن أوصل الوضع المالي والمصرفي الى الواقع المؤلم»، مؤكداً «أن هذه اللعبة أصبحت في مرحلتها الأخيرة وسيُكشف أمر كل مسؤول عن هذه الكارثة الكبيرة».

وتقاطعت هذه المناخات مع مؤشراتِ تجاذبات حول البنود الدسمة في مشروع موازنة 2022 ذات الصلة خصوصاً بسلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان وبعض الرسوم والضرائب (الدولار الجمركي) ورفع تعرفات قطاع الاتصالات وسواها والتي أرجئت غالبيتها من جلستي الحكومة أمس إلى اجتماعها اليوم، وسط إثارة بعض الأوساط مخاوف من أن تكون التحركات في الشارع، وبينها الذي نفّذه قطاع النقل البري في اليوم الأول من «ثلاثية» شلّ البلاد وقطع الطرق في غالبية المناطق، «الحديقة الخلفية» لصراعات سياسية خفية تتصل بعناوين الموازنة وغيرها من نقاط الاستقطابات الداخلية.

وكان الإضراب الجديد الذي نفّذه قطاع النقل البري بهدف حض الحكومة على الوفاء بوعود لدعم هذا القطاع الذي تضرر بشدة جراء الأزمة الاقتصادية والارتفاع الخيالي في أسعار المحروقات، قَطَعَ أوصال البلاد وجمّد الحركة وفرض إقفال الجامعات والمدارس وأربك العمل في غالبية المؤسسات، وسط توعُّد القيمين على التحرك (رئيس اتحادات ونقابات النقل البري محسوب على بري) بالمضي في الإضراب مع تصعيد قطْع الطرق ما لم تلبّ الحكومة المجتمعة مطالبهم.

وجاء هذا التحرك فيما البلاد، التي سجّلت فيها أمس إصابات كورونا رقماً قياسياً تجاوزت معه 10 آلاف للمرة الأولى منذ بدء الجائحة، تتخبّط في الاختناقات المعيشية التي لم تخف وطأتها رغم التراجع الكبير في سعر صرف الدولار (بنحو 40 في المئة في 3 أسابيع) في ظل تَفَلُّت الأسعار من تأثيرات الهبات الباردة واقتصار تفاعُلها «صعوداً مع الدولار»، وسط كلام لافت أطلقه ميقاتي خلال زيارته لتركيا، حيث وصف الأزمة بأنها «تكاد تكون الأسوأ في العالم»، طالباً كل أنواع المساعدة وفي كل المجالات.

ويُذكر أن الرئيس رجب طيب أردوغان قال أمام ميقاتي والوفد الوزاري المرافق: «يقول المثل الصديق وقت الضيق وفي اليوم الأسود، ونحن نؤكد موقفنا الثابت بأننا إلى جانب لبنان، ونريد أن نصل إلى كل شرائح المجتمع اللبناني من دون تمييز وفي كل المجالات، ولدينا إمكانات كبيرة نريد أن نستخدمها مع لبنان»، مبدياً استعداد بلاده للمساهمة في عملية إعادة إعمار مرفأ بيروت.