| نادين البدير |
كثيرة الأشياء الجديدة من حولنا. تتوالى مجموعة من التغييرات في الداخل السعودي بشكل مثير متسارع يدهش مواطنين اعتادوا الجمود والرتابة والنسيان بعض الأحيان.
بالأمس لم نكن نجرؤ على التفوّه بمصطلحات سياسية كانت تعد محرمة، مصطلحات مشبوهة (كمساءلة المسؤول ومحاسبته أو محاكمته) فقد تعود المساءلة على من يطالب بها فيتعرض للمحاسبة. كنا نتابع أخبار المجتمع الكويتي السياسية (وما زلنا) بإعجاب موحد وغبطة مشتركة، وجميعنا يتمتم في داخله (كذا الديموقراطية). تشتد الغبطة والإعجاب حين تبرز للسطح أخبار عن الاستجوابات المعمول بها في الكويت، استجوابات لا تميز بين المناصب ولا الأسماء. يستجوب أصغر مسؤول ويستجوب الكبير، الكبير الذي منح ذاته في بلدان أخرى قدسية لا تقبل النقد. يستجوب رئيس وزراء.
ردود الفعل في اللحظات الأولى: مؤكد أن في الأمر خطأ. لا بد أن أحدهم نقل العنوان بالخطأ. من يتجرأ على محاسبة واستجواب رئيس وزراء خليجي؟
الكويتيون يجرؤون. لهم دائما في الديموقراطية مفاجآت تدهش الخليج وتخرجه عن طوره، ليشعر أن أمامه عقوداً وعقوداً من التقدم السياسي الداخلي.
لكننا في الساحل الغربي السعودي نعيش تجربة مماثلة، أقصد بدايات تجربة. فبعد انتهاء أمطار جدة اعتقد الجميع أن من مات بفعل العواصف انتهت حكاية موته بدفنه، وأن المسؤولين عن كارثة سيول جدة سيعودون لأماكنهم وحياتهم المترفة التي بنيت على أساس خراب المدينة، سيرجعون لفسادهم وقد يبحثون من جديد للإمساك بزمام تلوث وفساد حديث آخر يصيب الأرض والمواطن. لم تنته قضية الفساد التي يشتكي منها المجتمع بموت المئة وعشرين قتيلاً، كان اعتقاداً خاطئاً. فالملف لم يقفل والقضية لم تنس. بل بدأت. وفتح الملف أولا على طاولة الملك.
وأصدر الملك بياناً بضرورة فتح القضية واكتشاف كل المتورطين بدماء قتلى عاصفة جدة وضرورة محاسبتهم. وتسلم أمير منطقة مكة خالد الفيصل التي تضم جدة عهدة المساءلة والمحاسبة.
وكنتيجة لبداية التحقيق، حدث قبل يومين أن أوقف أربعون شخصا بينهم مسؤولون وتجار وموظفون ومقاولون وإداريون، متورطون في القضية، قد تثبت براءة بعضهم وقد يثبت فساد البعض الآخر باستغلال النفوذ والتربح من الوظيفة العامة والاستيلاء على المال العام. صحيح أن المهمة كان يجب أن تبدأ من البداية، فقد كان خطأ عدم مراقبة المسؤولين في جدة وتركهم يعبثون في البلد بطريقة تبدو وكأنها تشجيع على الفساد، ثم النهوض فجأة، لن أقول بعد فوات الأوان لكن بوقت متأخر لتحويل شخصيات كانت تعد من علية القوم إلى المحاسبة والتحقيق. إلا أن كثيرين يعتقدون بأن قدوم الإصلاح خير من عدم المجيء أبداً.
كل شيء جديد من حولنا. ملك بتوجهات عصرية. أمير منطقة يسعى لنشر قيم ثقافية فكرية عميقة. مساءلات. محاسبات. قرار بوقف الفساد.
هذه هي البداية. حين يقرر السياسي أن يحدث التغيير.
وأتمنى أن تكون بداية إصلاح حقيقي، تترجم على هيئة محاسبة لا تعرف التمييز. محاسبة لا تعلم شيئا عن الطبقية القبلية والفوقية المعمول بها في كل مكان خارج غرف التحقيق. محاسبة لا تميز عند توجيه أصابع الاتهام بين وجه ابن فلان وابن علان.
هل يمكننا الوثوق والقول إن هذا تحديدا ما سيحدث؟ الأيام المقبلة ونتائج التحقيق ستثبت مدى نزاهتها وصدقها.
والأهم من قرارات العقاب، قرارات بناء مستقبل سليم لمدينة جدة. العروس المهترئة التي حتماً ستصمد وستعيد ارتداء حلتها من جديد. وسيكتب في السجلات أن أول عملية إصلاح في السعودية ابتدأت من هنا. كان على أحد أن يدفع ثمن البداية،  غرقت جدة. ودفع الثمن.

كاتبة واعلامية سعودية
Albdairnadine@hotmail.com