كان خبراً لافتاً ما تناولته وسائل الإعلام في العالم حول إعلان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس عزمه عدم الترشح للرئاسة مرة أخرى. وأعتقد ومعي الكثيرون أن الإعلان «لعبة ومناورة قديمة» لجأ إليها سابقاً الرئيس المصري الراحل عبدالناصر عقب الهزيمة المذلة في 1967، التي سميت «نكسة» للتضليل، وزيادة في التضليل كانت تمثيلية التنحي عقب الهزيمة، وأخرج الاتحاد الاشتراكي الجماهير الكادحة بمئات الآلاف ترفض التنحي، وتبكي على الزعيم الذي أراد أن يتحمل الهزيمة وحده ولا يحملها لأعوانه الذين ضيعوا البلاد والعباد باستهتارهم وضعفهم.
ولكن شتان بين محمود عباس وعبدالناصر، فمهما كنت أختلف حول حكم عبدالناصر لمصر، واستبداده، وعصفه بالحريات، وفتحه المعتقلات للإسلاميين، لكن عبدالناصر رغم جميع المآخذ كانت له مواقف تجاه الاستعمار والمحتل الصهيوني، نعم كانت له مواقف مهمة وقوية للأمة العربية وفلسطين وإن كانت بالكلام. لكن محمود عباس يصعب، بل يستحيل تماماً المقارنة بينه وبين عبدالناصر.
أعلن عباس، الذي تأخرت القضية الفلسطينية في عهده بصورة غير مسبوقة، قراره بعدم خوض الانتخابات كي تخرج الجماهير المسكينة تبكي وتستغيث: «بالروح والدم نفديك ياعباس»، ولكن المشهد في الضفة الغربية كان غير ذلك فلم يخرج إلا مجموعة من الصبية المدفوعين من قوى الأمن والمصلحة. ولم نر الجماهير تقدم أراوحها فداء لعباس، وكأن لسان حالها يقول... بالروح والدم لا تتراجع يا عباس عن قرارك الرشيد الذي غاب عنّا فترة طويلة. وكيف لا تقولها وقد قالتها من قبل عندما رفضته رئيساً للوزراء في حياة ياسر عرفات، فلم يستقر في منصبه شهورا، وقد عاد بعد اغتيال عرفات بتأييد دولي ليتم وضعه على رأس السلطة. فماذا كانت النتيجة؟ سيل من المواقف التي ضيعت حقوق الفلسطينيين، منها على سبيل المثال لا الحصر إعلانه رفضه للمقاومة، بل وسخريته من المقاومة وتنفيذه لتوصيات دايتون، وسعيه للانقلاب على غزة وكانت النتيجة انفراد «حماس» بغزة بعد احباطها انقلاب «دحلاني أميركي». وأوعز للمندوب الفلسطيني أن يتقدم مع المندوب الإسرائيلي في مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار مشترك يعتبر قطاع غزة منطقة «خارجة على القانون»، وهي رسالة للمجتمع الدولي مفادها: حاربوا معي غزة و«حماس»، وحاصروهم بالجوع كي يستسلموا لي ولكم.
ثم كان المشهد الأخير ريتشار غولدستون «اليهودي» يقدم تقريراً لمجلس حقوق الإنسان يدين العدو الصهيوني ويتهمه بارتكاب جرائم حرب في غزة، وهو التقرير الذي أيدته 35 دولة، وبينما كان قرار الإدانة للعدو قاب قوسين أن يسطر لفضح جرائم الصهاينة أمام العالم إذا بالمندوب الفلسطيني، بقرار من عباس، يطلب تأجيل القرار، فكانت الصدمة والتساؤل الذي فرض نفسه: لماذا ولمصلحة من؟! لأن رئيس وزراء العدو نتنياهو أعلن أنه لو تم تأييد القرار سيفضح عباس بنشر تسجيل فيه كلام واضح بتأييد عباس لليهود الصهاينة في حربهم وعدوانهم على غزة بما جرى فيها من انتهاك لكل القوانين والأعراف الدولية والإنسانية.
ثم يظهر اليوم عباس ليعلن للعالم عدم خوضه الانتخابات، رغم أنه من الناحية الدستورية قد انتهت مدة حكمه، وهو يحكم ببدعة جديدة في القانون الدستوري للحكم هي تأييد المجتمع الدولي له وتوافقه عليه، رغم أن الدساتير تعطي هذا الحق للشعوب فقط، ولكن المجتمع الدولي يصر على محاولة محو الإرادة السياسية للشعب الفلسطيني البطل المجاهد.
ويظن محمود عباس أن في ذلك الإعلان، وفي خروج مظاهرات الصبية وأصحاب المصلحة تأييداً له، رسالة للمجتمع الدولي أنه لا بديل له. ولكني على يقين أن ذلك الموقف إن لم يكن مناورة رخيصة فهو الموقف الشريف الوحيد الذي يحق أن تخرج من أجله الجماهير وتهتف «بالروح والدم لا تتراجع يا عباس».

ممدوح اسماعيل
محام وكاتب
Elsharia5@hotmail.com