لا يزال يذكر تفاصيل ذلك اللقاء القصير بكل دقة رغم مرور أكثر من ثلاثين سنة عليه. كانت عائلته في زيارة إلى منزل أناس من أقاربهم في «حي الملز» في الرياض. كان ذلك أثناء العطلة الصيفية تحديداً، وفي أوائل السبعينات الميلادية من القرن المنصرم. لا يذكر اسم الشارع، ولكن المنزل يقع على شارعين، وهو كبير نسبياً، ومليء بالأشجار الجميلة.كان في الثالثة عشرة من عمره، ولم تكن موجة التشدد الديني قد اجتاحت البلاد والعباد. ولذلك، كان مسموحاً له أن يشاهد النساء من دون عباءاتهن وأغطية وجوههن. تسلل من مجلس الرجال إلى مجلس النساء. ألقى التحية ثم جلس في ركن قصي. وبعد قليل، اقتربت منه ابنة أصحاب الدار وتعارفا بسرعة.كانت أصغر منه بسنة تقريباً. وبدت جميلة، وسمراء، ورشيقة، وذات شعر طويل وناعم، وعينين سوداوين واسعتين. كانت ترتدي فستاناً أبيض إلى منتصف الساق وجوارب بيضاء طويلة. تحدثا عن الدراسة، ومدينة الملاهي، وبرامج الأطفال في التلفزيون، والإجازة الصيفية، ومسرحية مدرسة المشاغبين. أخبرها بنكتة، فضحكت ضحكة مدوية بانت على إثرها أسنانها البيضاء والصغيرة التي تشبه حبات اللؤلؤ. قالت له لغزاً فلم يستطع الإجابة عنه. ضحكا معاً عندما أفصحت عن جواب اللغز.طلبت منه أن يأتي معها إلى غرفة الطعام المجاورة. رافقها إلى الغرفة ذات المجلس الشعبي المكون من فرشات أرضية ومساند للظهر. قالت له إنها تعشق الغناء وتحب محمد عبده كثيراً. أجابها وهو يبتسم بأنه يفضل طلال المداح. صعدت على احد المساند، وبدأت تغني أغنية محمد عبده الجديدة: «معك التحية يا نسيم الجنوب». وبدأت تحرك يديها عند مقطع «تراه من بدّ العذارى لعوب». ثم ضحكت عندما قالت بصوت شجي لا ينسى «يضحك ومع ضحكه سروق للألباب». وأخيراً أنهت الأغنية وهي تبتسم «يشهد على ما قول قلب تعوبي... قلب غدا به سيد أهل نجد نهّاب»! أحس بشعور غريب.. شعور ينتابه لأول مرة في حياته! لكنه لم يدرك كنه هذا الشعور.أخبرته أنها ستذهب مع عائلتها إلى حديقة الحيوانات في الغد، وأضافت أنها ستسر لو أتى معهم. أجابها بأنهم سيغادرون الرياض إلى الطائف في الغد لقضاء بقية العطلة الصيفية. وواصلا الحديث وتبادل النكات والألغاز. ثم غادر مع عائلته منزلهم، وكان ذلك هو اللقاء الأول والأخير معها.صوتها العذب لا يزال يتردد صداه في لاشعوره كلما زار الرياض في رحلة عمل ومر بشارع «الستين» في «حي الملز» رغم مضي أكثر من ثلاثة عقود على غنائها. صورتها لا تزال في مخيلته وهي تغني وتبتسم وتحرك يديها بمرح وبراءة. يريد أن يعرف عنها أي معلومة، ولكنه لا يعرف كيف السبيل إلى ذلك. ولو سأل، يخشى أن يقال له - كالعادة - في مجتمع محافظ: لماذا تسأل؟ وماذا بينكما؟خياله يحلق بعيداً طارحاً أسئلة حالمة مثل: هل ما زالت جميلة؟ أم غيرتها السنون؟ هل أكملت تعليمها؟ وماذا تخصصت؟ وهل تزوجت؟ وهل لديها إيميل؟ وهل يمكن أن يصبحا صديقين بعد أن كبرا؟ وهل وهل وهل؟ ثم يعود خياله إلى الارتطام بأرض الواقع الصلبة ليدرك أنها أصبحت سراباً.الآن يشعر بالندم لقصر مدة ذلك اللقاء البريء المحفور في ذاكرته بكل تفاصيله مثل الوشم.والآن يحس بالحسرة الشديدة لأنه لم يرافقها لزيارة حديقة الحيوانات عندما طلبت منه ذلك.والآن فقط عرف معنى ذلك الشعور الغريب الذي انتابه لأول مرة وهي تغني: «نسيم الجنوب»!
كاتب من السعودية