نادراً جداً ما يشعر المرء وبخاصة الفرد المبدع بحالة من الراحة النفسية الكاملة تجاه ما يتم تقديره واحترامه وتشجيعه في الأوساط الاجتماعية المحيطة به لما يقوم به من دور وإبداع في خدمة مجتمعه والإنسانية جمعاء.
ولعل الأكثر معاناة في هذا الصدد هو ذو الكفاءة أو صاحب موهبة أو من امتلك طاقة خلاقة، إذ يشعر الإنسان المبدع أنه بالرغم من عطائه الرائع فإنه يهمل ويهمش، ليس هذا فحسب وإنما يتعرض للمضايقة والعرقلة والتشويش عليه وعلى إبداعاته، وفي كثير من الأحيان يحارب، بفتح الراء، (بالاستناد إلى مقولة مفادها: يكتشف المبدع بتلك العلاقة الدالة وهي تحالف جميع الأغبياء ضده) إن هذه الظاهرة تندرج ضمن إطار مأزق الفرد في المجتمع.
لقد تناول هذا المأزق كتاب وباحثون مرموقون عدة في العالم العربي، فالشاعر العربي الكبير أدونيس المرشح لجائزة نوبل للآداب يسلط الضوء على هذا المأزق ويرى، في محاضرة له بالقاهرة، أن الفرد في المجتمع العربي المسلم يعاني التهميش الذي تمارسه مؤسسات تمحو الذاتية لصالح مفهوم الأمة أو الجمهور الذي قال بأنه فكرة أيديولوجية. إن الفرد المسلم، بحسب أدونيس، يعيش الآن رهين محبسين هما التأويل الوحداني، والتأويل السلفي للنص الديني وهذا يؤدي إلى انمحاء وذوبان الفردية في الجماعة الأمة، ويشير إلى محاولات في التاريخ العربي لاختراق هذين المحبسين على أيدي بعض الشعراء والمتصوفة، حيث يرى أن التصوف أعمق ثورة في تاريخ الإسلام، ويضيف أدونيس بالقول: «إن جميع الأحزاب تلغي الهو في سبيل الهم».
ويتناول الباحث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «الإنسان المهدور» تهميش الفرد في المجتمع من خلال البحث في سيكولوجية هدر الطاقات وهدر الإمكانات وانمحاء الفرد ضمن الجماعة، الدين، القومية، القبيلة، الطائفة... ويرى حجازي أنَ ثقافة الولاء للعصبية لا تفعل سوى هدر الطاقات والكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية، تهدر الطاقات الأكثر حيوية وعطاء على مذبح الولاء والتبعية، وبالتالي تهمش فئات كبيرة من ذوي الكفاءات حتى النادرة منها، وتدفع إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء وبراهين التبعية التي لا يداخلها شك. ثقافة الولاء هي ثقافة الهدر ذاته، وهذا ما يفسر تعثر التنمية ويعم التخلف، والمبعدون والمنفيون من ذوي الكفاءات يجترون الإحباط والمعاناة ويشتعل في نفوسهم الغضب على واقع الحال.
يشدد الباحث على ثقافة الإنجاز والعمل تبعا لناموسها، وبرأيه في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائناً منجزاً يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها، كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع.
ويؤكد الباحث على ضرورة الاعتراف بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمين الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية، الإنسان أولاً وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.
أما الأستاذ حازم صاغية فيحرر في كتابه «مأزق الفرد في الشرق الأوسط» مقالات عدة للعديد من الباحثين والكتاب في مجال الفردانية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مقدمة غنية بالأفكار الحيوية والمهمة، إذ ضمت رؤية نقدية واضحة لمكانة الفرد في التاريخ العربي. يشير الباحث صاغية على أنه في الواقع لقد وجد الأفراد دائماً في الشرق الأوسط، كما في غير مكان من كوكبنا، وهؤلاء الذين تربطهم ألفة ما بالتاريخ والأدب العربيين يعرفون عن الشعراء «الصعاليك» فآراء وأعمال هؤلاء الشعراء كانت مرفوضة في قبائلهم وجماعاتهم، وكان عليهم أن يهجروا منازلهم وأصحابهم ليعيشوا في منافي الأراضي المهجورة في الصحراء، غير أن ما لم يوجد هو الفردانية لأن هذه لا تظهر إلا مع الحداثة وبفضلها.
وهنالك هضم للحقوق الفردية ضمن سياق المطالبة بالحريات سواء للشعوب المنضوية تحت أطر دول معترف بها أو للأقليات المضطهدة، فالتجربة توضح أن هنالك تضحية بالحريات الفردية من أجل الحريات الجماعية، ولقد شهدت الأحزاب العربية والكردية حالات من إهمال الفرد والتضييق على حرياته، ورغم شعارات وأهداف هذه الأحزاب بالحرية والديموقراطية والنضال ضد الاضطهاد والدكتاتورية والاستبداد ومارست هذه الأحزاب أساليب غريبة بحق الأعضاء الذين قرروا لسبب ما الانفكاك من هذه الأحزاب من نبذهم وعزلهم واتهامهم وحتى تخوينهم في كثير من الحالات، هذا ولعل اندفاع الكثير من الأفراد للانخراط في هذه الأحزاب لا يأتي بسبب قناعاتهم بهذه الأحزاب وإنما بغية صنع وجاهات سياسية للحصول على رضا الجماهير وتقديرها مستغلين حالات التخلف الشعبي الواسعة، ولعل تهميش الفردية يتبدى في المجال الإعلامي والفكري على شاشات الفضائيات الكردية من خلال إظهار شخصيات لا تمتلك الإمكانات الإعلامية والفكرية للدفاع عن الكرد وقضيتهم العادلة وذلك بسبب انتمائهم الحزبي بينما يتم إهمال وتهميش شخصيات تمتلك تلك الإمكانات وذلك لأنها شخصيات مستقلة غير منتمية لأي أحزاب.
وهذا الإقصاء وهذا التهميش الممارس من قبل الأحزاب بحق أعضائها المستقيلين يقابله في الأنظمة العربية إقصاء وتهميش للخبرات والكفاءات والطاقات العلمية والثقافية والفكرية، وهذا ما يؤدي في الداخل للاغتراب والتقوقع والانحسار الإبداعي وفي الخارج إلى هجرتها والاغتراب الاجتماعي عن البلد الأصلي والتعرض لازدواجية التجنس واللغة والثقافة والتقاليد.
لكن رغم ذلك فإن هذه الطاقات تبدع وتنجز في مجالاتها إنجازات رائعة ما لا يتاح أمامها في بلدانها الأصلية بسبب توافر المناخات الديموقراطية الكافية، وملاقاتها للدعم والتحفيز والمساندة من المؤسسات الحكومية والمدنية في بلدان المهجر.
إنَ ما يدعو للألم والأسى حقاً أن الفردية في العالم العربي تغيب وتتيه أمام موجات من المغالاة والمتاجرة الشعاراتية والصراخ في الفراغ بينما الفرد المبدع يبحث عن إنسانية مبدعة متجسدة في الفرد لبناء مجتمعات قوية وسليمة ومعافاة من أمراض سياسية واجتماعية أدت وتؤدي إلى تخلف هذا العالم (العالم العربي) وتعرقله عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.
حواس محمود
هذا المقال منشور بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org
ولعل الأكثر معاناة في هذا الصدد هو ذو الكفاءة أو صاحب موهبة أو من امتلك طاقة خلاقة، إذ يشعر الإنسان المبدع أنه بالرغم من عطائه الرائع فإنه يهمل ويهمش، ليس هذا فحسب وإنما يتعرض للمضايقة والعرقلة والتشويش عليه وعلى إبداعاته، وفي كثير من الأحيان يحارب، بفتح الراء، (بالاستناد إلى مقولة مفادها: يكتشف المبدع بتلك العلاقة الدالة وهي تحالف جميع الأغبياء ضده) إن هذه الظاهرة تندرج ضمن إطار مأزق الفرد في المجتمع.
لقد تناول هذا المأزق كتاب وباحثون مرموقون عدة في العالم العربي، فالشاعر العربي الكبير أدونيس المرشح لجائزة نوبل للآداب يسلط الضوء على هذا المأزق ويرى، في محاضرة له بالقاهرة، أن الفرد في المجتمع العربي المسلم يعاني التهميش الذي تمارسه مؤسسات تمحو الذاتية لصالح مفهوم الأمة أو الجمهور الذي قال بأنه فكرة أيديولوجية. إن الفرد المسلم، بحسب أدونيس، يعيش الآن رهين محبسين هما التأويل الوحداني، والتأويل السلفي للنص الديني وهذا يؤدي إلى انمحاء وذوبان الفردية في الجماعة الأمة، ويشير إلى محاولات في التاريخ العربي لاختراق هذين المحبسين على أيدي بعض الشعراء والمتصوفة، حيث يرى أن التصوف أعمق ثورة في تاريخ الإسلام، ويضيف أدونيس بالقول: «إن جميع الأحزاب تلغي الهو في سبيل الهم».
ويتناول الباحث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه «الإنسان المهدور» تهميش الفرد في المجتمع من خلال البحث في سيكولوجية هدر الطاقات وهدر الإمكانات وانمحاء الفرد ضمن الجماعة، الدين، القومية، القبيلة، الطائفة... ويرى حجازي أنَ ثقافة الولاء للعصبية لا تفعل سوى هدر الطاقات والكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية، تهدر الطاقات الأكثر حيوية وعطاء على مذبح الولاء والتبعية، وبالتالي تهمش فئات كبيرة من ذوي الكفاءات حتى النادرة منها، وتدفع إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء وبراهين التبعية التي لا يداخلها شك. ثقافة الولاء هي ثقافة الهدر ذاته، وهذا ما يفسر تعثر التنمية ويعم التخلف، والمبعدون والمنفيون من ذوي الكفاءات يجترون الإحباط والمعاناة ويشتعل في نفوسهم الغضب على واقع الحال.
يشدد الباحث على ثقافة الإنجاز والعمل تبعا لناموسها، وبرأيه في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائناً منجزاً يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها، كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع.
ويؤكد الباحث على ضرورة الاعتراف بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمين الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية، الإنسان أولاً وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.
أما الأستاذ حازم صاغية فيحرر في كتابه «مأزق الفرد في الشرق الأوسط» مقالات عدة للعديد من الباحثين والكتاب في مجال الفردانية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى مقدمة غنية بالأفكار الحيوية والمهمة، إذ ضمت رؤية نقدية واضحة لمكانة الفرد في التاريخ العربي. يشير الباحث صاغية على أنه في الواقع لقد وجد الأفراد دائماً في الشرق الأوسط، كما في غير مكان من كوكبنا، وهؤلاء الذين تربطهم ألفة ما بالتاريخ والأدب العربيين يعرفون عن الشعراء «الصعاليك» فآراء وأعمال هؤلاء الشعراء كانت مرفوضة في قبائلهم وجماعاتهم، وكان عليهم أن يهجروا منازلهم وأصحابهم ليعيشوا في منافي الأراضي المهجورة في الصحراء، غير أن ما لم يوجد هو الفردانية لأن هذه لا تظهر إلا مع الحداثة وبفضلها.
وهنالك هضم للحقوق الفردية ضمن سياق المطالبة بالحريات سواء للشعوب المنضوية تحت أطر دول معترف بها أو للأقليات المضطهدة، فالتجربة توضح أن هنالك تضحية بالحريات الفردية من أجل الحريات الجماعية، ولقد شهدت الأحزاب العربية والكردية حالات من إهمال الفرد والتضييق على حرياته، ورغم شعارات وأهداف هذه الأحزاب بالحرية والديموقراطية والنضال ضد الاضطهاد والدكتاتورية والاستبداد ومارست هذه الأحزاب أساليب غريبة بحق الأعضاء الذين قرروا لسبب ما الانفكاك من هذه الأحزاب من نبذهم وعزلهم واتهامهم وحتى تخوينهم في كثير من الحالات، هذا ولعل اندفاع الكثير من الأفراد للانخراط في هذه الأحزاب لا يأتي بسبب قناعاتهم بهذه الأحزاب وإنما بغية صنع وجاهات سياسية للحصول على رضا الجماهير وتقديرها مستغلين حالات التخلف الشعبي الواسعة، ولعل تهميش الفردية يتبدى في المجال الإعلامي والفكري على شاشات الفضائيات الكردية من خلال إظهار شخصيات لا تمتلك الإمكانات الإعلامية والفكرية للدفاع عن الكرد وقضيتهم العادلة وذلك بسبب انتمائهم الحزبي بينما يتم إهمال وتهميش شخصيات تمتلك تلك الإمكانات وذلك لأنها شخصيات مستقلة غير منتمية لأي أحزاب.
وهذا الإقصاء وهذا التهميش الممارس من قبل الأحزاب بحق أعضائها المستقيلين يقابله في الأنظمة العربية إقصاء وتهميش للخبرات والكفاءات والطاقات العلمية والثقافية والفكرية، وهذا ما يؤدي في الداخل للاغتراب والتقوقع والانحسار الإبداعي وفي الخارج إلى هجرتها والاغتراب الاجتماعي عن البلد الأصلي والتعرض لازدواجية التجنس واللغة والثقافة والتقاليد.
لكن رغم ذلك فإن هذه الطاقات تبدع وتنجز في مجالاتها إنجازات رائعة ما لا يتاح أمامها في بلدانها الأصلية بسبب توافر المناخات الديموقراطية الكافية، وملاقاتها للدعم والتحفيز والمساندة من المؤسسات الحكومية والمدنية في بلدان المهجر.
إنَ ما يدعو للألم والأسى حقاً أن الفردية في العالم العربي تغيب وتتيه أمام موجات من المغالاة والمتاجرة الشعاراتية والصراخ في الفراغ بينما الفرد المبدع يبحث عن إنسانية مبدعة متجسدة في الفرد لبناء مجتمعات قوية وسليمة ومعافاة من أمراض سياسية واجتماعية أدت وتؤدي إلى تخلف هذا العالم (العالم العربي) وتعرقله عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.
حواس محمود
هذا المقال منشور بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org