| القاهرة - من خالد زكي |
الحب هو ذلك الشعور الخفي الذي يتجول في كل مكان، ويطوف الدنيا بحثا عن فرصته المنتظرة ليداعب الإحساس ويغازله، ويسحر العيون، ويتسلل بهدوء، ويستقر في غفلة من العقل، داخل تجاويف القلب، ليمتلك الروح والوجدان، ويسيطر على كيان الإنسان، ويزلزله زلزالا ويهزه بقوة.
الحب كالموت، لا يفرق بين صغير وكبير، وغني وفقير، الحب جمرة من نار، تنشر شظاياها في قلوب المحبين، فتكويهم بلوعة الشوق وألم الفراق... الحب هو تلاقي الأنفاس وتشابك النظرات. وتحليقها في سماء تخلو من الأحقاد والأضغان.
وقديما قال الشاعر:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما وأيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.
والحب يخلق في القلوب رغما عن أصحابها... كما قال نزار قباني:
تلومني الدنيا إذا أحببته... كأنني أنا خلقت الحب واخترعته
وفي هذه الحلقات... نعرض جانبا من رسائل مشاهير السياسة والحرب والأدب والشعر لمن أحبوهم وتعلقوا بهم، وبادلوهم الغرام، لنرى كيف كان القائد الفرنسي نابليون بونابرت يكتب أجمل رسائل الحب إلى محبوباته، وكيف كان الرئيس جمال عبدالناصر يخاطب زوجته من ميدان القتال، وكيف امتلك قيادي إخواني متشدد قلبا كقلوب العاشقين الحيارى. وهذه الرسائل تكشف الوجه الآخر لهؤلاء المشاهير الذين لم يتمكنوا من إغلاق قلوبهم أمام أنواء الحب التي لا تبقي ولا تذر.
 
نزار قباني هو أمير الشعر الغنائي، وأفضل من كتب عن المرأة، وتغزل فيها، شعره لا يعرف الخجل، ولا يخشى الخطوط الحمراء، ويتمرد على جميع التابوهات، وهو باختصار كما وصفته ابنته هدباء «كم أشعر بالفخر لأن أبي هو نزار قباني، الشاعر الذي نقل الحب من الأقبية السرية إلى الهواء الطلق».
نزار - الذي عاش في الفترة من 1923 - 1998... التحق بعد تخرجه بالعمل الديبلوماسي وتنقل خلاله بين «القاهرة، وأنقرة، ولندن، ومدريد، وبكين» وفي ربيع العام 1966، ترك العمل الديبلوماسي وأسس في بيروت دارا للنشر تحمل اسمه وتفرغ للشعر.
وكانت ثمرة مسيرته الشعرية إحدى وأربعين مجموعة شعرية ونثرية، كانت أولها «قالت لي السمراء» - 1944. اشتهر نزار بأعماله الرومانسية والسياسية الجريئة... تميزت قصائده بلغة سهلة... فانتشرت بسرعة بين ملايين القراء في أنحاء العالم العربي.
تناولت دواوينه الأربعة الأولى، قصائد رومانسية حالمة ولم تخرج أشعاره في تلك الفترة عن الغزل والغرام في المرأة... وكان ديوان «قصائد من نزار قباني» الصادر العام 1956 نقطة تحول في شعر نزار.
حيث تضمن هذا الديوان قصيدة «خبز وحشيش وقمر» التي انتقدت بشكل لاذع - خمول المجتمع العربي وتقاعس قادته - عن النهوض بالدول العربية واهتمامهم المبالغ فيه بالحفاظ على كراسيهم بأي وسيلة وبأي ثمن... تميز نزار قباني أيضا بنقده السياسي القوي، ومن أشهر قصائده السياسية «هوامش على دفتر النكسة» التي كتبها العام 1967 وتناول فيها هزيمة العرب على أيدي إسرائيل في نكسة يونيو الشهيرة... من أهم أعماله «حبيبتي» و«الرسم بالكلمات» 1966 و«قصائد حب عربية»1993.
صدمات عنيفة
كان لانتحار شقيقته التي أجبرت على الزواج من رجل لا تحبه، أثر كبير في حياته, قرر بعدها محاربة كل الأشياء التي تسببت في موتها. عندما سئل نزار قباني إذا كان يعتبر نفسه ثائرا، أجاب الشاعر: «إن الحب في العالم العربي - سجين - وأنا أريد تحريره، أريد تحرير الحس والجسد العربي بشعري، أن العلاقة بين الرجل والمرأة في مجتمعنا غير سليمة».
تزوّج نزار قباني مرتين، الأولى، من ابنة عمه «زهراء آقبيق» وأنجب منها هدباء وتوفيق والثانية، عراقية هي «بلقيس الراوي» وأنجب منها عُمر وزينب. توفي ابنه توفيق وهو في السابعة عشرة من عمره مصابا بمرض القلب، وكانت وفاته صدمة زلزلت كيان نزار، وقد رثاه في قصيدة «إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني».
وفي العام 1982 قُتلت بلقيس الراوي، في انفجار السفارة العراقية ببيروت، وترك رحيلها أثرا نفسيا سيئا عند نزار ورثاها بقصيدة شهيرة تحمل اسمها «بلقيس».
بعد مقتل بلقيس ترك نزار بيروت وتنقل بين باريس وجنيف حتى استقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته. ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل... خاصة قصائده السياسية خلال فترة التسعينات مثل: «متى يعلنون وفاة العرب»، و«المهرولون».
وافته المنية في لندن في أواخر شهر أبريل 1998 عن عمر يناهز 75 عاما قضى منها أكثر من 50 عاماً في الحب والسياسة والثورة والمغامرات النسائية التي كان يحبها ولا يخجل من الحديث عنها.
دون جوان
وبالرغم من أن نزار كان كثير العلاقات النسائية حتى ان أصدقاءه المقربين كانوا يطلقون عليه «الدونجوان»، نظرا لكثرة علاقاته ومغامراته التي عاشها مع النساء في كل الدول التي عاش فيها وتنقل بينها... إلا أنه حينما أراد أن يسجل لحظات الحب والغرام في حياته رفض أن يذكر اسم أي من حبيباته ومعشوقاته... قرر فقط أن يسجل قصص حبه والرسائل الغرامية التي كان يتبادلها مع محبوباته في كتابه 100 رسالة حب، الذي بدأها بمقدمة طويلة أوضح فيها أنه لا يبغي من نشر هذه الرسائل كشف أسرار أي من النساء اللواتي أحبهن أو حتى فضح أي منهن.
يقول نزار في مقدمة كتابه:
«هذه الرسائل المئة التي أنشرها هي كل ماتبقى من غبار حبي... وغبار حبيباتي ولا أعتقد أنني بنشرها أخون أحدا أو أعتدي على عذرية أحد فأنا شاعر كان له ككل الرجال تراث من العشق لايخجل منه ومجموعة من الرسائل لم يجد الشجاعة الكافية لإلقائها في النار، وأنا لا أنكر أنني فكرت في النار. كحل أخير يحررني من هذه التركة الثقيلة من الرسائل التي أحتفظ بها... ويحرر جميع حبيباتي... غير أني حين رجعت إلى محتويات هذه التركة.
وجدت أن بعض هذه الرسائل فيه شيء كثير من قماشة الشعر... وبعضها الآخر شعر حقيقي... عندئذ تراجعت عن عملية الحرق... والتقطت من بين أكداس الرسائل مئة رسالة... أو مقاطع من رسائل وجدت فيها إيقاعا شعريا وإنسانيا يتجاوز إطار الخصوصيات إلى إطار العموميات.
وبالرغم من قناعتي بأن الخط الذي يرسمه الناس بين خصوصيات الفنان وعمومياته هو خط وهمي... ثم إني أعتقد أن الكاتب لا يكون في ذروة حريته إلا في مراسلاته الخاصة أي عندما يقف أمام المرآة متجردا من أقنعته وثيابه المسرحية التي يفرض عليه المجتمع أن يرتديها، فالرسائل هي الأرضية المثالية التي يركض الكاتب إليها كطفل حافي القدمين ويمارس فيها طفولته بكل ما فيها من براءة وحرارة وصدق. إنها اللحظات الصافية التي يشعر فيها الكاتب أنه غير مراقب وغير خاضع للاقامه الجبرية.
وأنا بالرغم من الحرية التي كنت أمارسها كشاعر. كنت أحس في كثير من الأحيان بأنني مقيد بأصول الشعر وقواعده وإطاراته العامة وأن هناك أشياء خلف ستائر النفس تريد أن تعبر عن ذاتها خارج شكليات الشعر ومعادلاته الصارمة.
وبتعبير آخر... كانت هناك منطقة في داخلي تريد أن تنفصل عن سلطة الشعر... تريد أن تتجاوز الشعر.
ومرة أخرى. أود أن أقول إنني لا أبتغي من نشر هذه الرسائل إحراج أي امرأة أو كشف أوراقها... فالتشهير ليس من عادتي ولا من هواياتي... والتشخيص لا يهمني أبدا لأن النساء يأتين ويذهبن... كما يأتي الربيع ويذهب... وكذلك الحب فهو مسافر قصير الإقامة... لا يفتح حقائبه حتى يغلقها ويرحل من جديد.
إن الحب انفعال رائع بغير ريب. ولكن الأروع منه. هي هذه الحرائق التي يتركها على دفاترنا وذلك الرماد الذي يبقي منه على أصابعنا... والمرأة هي الأخرى جميلة، ولكن الأجمل منها هو آثار أقدامها على أوراقنا... بعد أن تذهب.
وبعد... فهذه الرسائل هي كل ما تبقى من غبار حبي... ومن غبار حبيباتي وأنا أنشرها لأنني مؤمن بأن عشق الفنان ليس - عشقه وحده - ولكنه عشق الدنيا كلها... ورسائله إلى حبيباته مكتوبة إلى كل نساء العالم.
كنوز من الكلمات
يقول نزار في إحدى رسائله إلى إحدى معشوقاته:
أريد أن أكتب لك كلاما لا يشبه الكلام... وأخترع لغة لك وحدك أفصلها على مقاييس جسدك ومساحة حبي... أريد أن أسافر من أوراق القاموس وأطلب أجازة من فمي... فلقد تعبت من استدارة فمي. أريد فما آخرا... يستطيع أن يتحول متى أراد إلى شجرة كريز أو علبة كبريت... أريد فما جديدا. تخرج منه الكلمات كما تخرج الحوريات من زبد البحر... وكما تخرج - الصيصان البيضاء - من قبعة الساحر.
أريد أن أصنع لك أبجدية غير كل الأبجديات. فيها شيء من إيقاع المطر وشيء من غبار القمر وشيء من حزن الغيوم الرمادية وشيء من توجع أوراق الصفصاف... أريد أن أهديك كنوزا من الكلمات لم تُهد لامرأة من قبلك، ولن تُهدى لامرأة من بعدك، يا امرأة ليس قبلها قبل. وليس بعدها بعد... أريد أن أعلم نهديك الكسولين كيف يهيجان اسمي وكيف يقرآن مكاتيبي... أريد أن أجعلك اللغة التي أتكلمها.
أجراس الفضيحة
وفي رسالة أخرى أرسلها لمحبوبته قال لها فيها:
عندما قلت لك أحبك. كنت أعرف أني أقود انقلابا على شريعة القبيلة وأقرع أجراس الفضيحة... كنت أريد أن أتسلم السلطة لأجعل غابات العالم أكثر زرقة وأطفال العالم أكثر براءة... كنت أريد أن أنهي عصر البربرية وأقتل آخر الخلفاء كان في نيتي _ عندما أحببتك - أن أكسر أبواب الحريم وأنقذ أثداء النساء من أسنان الرجال... وأجعل حلماتهن ترقص في الهواء - مبتهجة - كحبات الزعرور الأحمر.
عندما قلت لك أحبك كنت أعرف أنني أخترع أبجدية جديدة لمدينة لا تقرأ وأنشد أشعاري في قاعة فارغة وأقدم النبيذ لمن لا يعرفون نعمة السّكر.
عندما قلت لك أحبك. كنت أعرف أن المتوحشين سيتعقبونني بالرماح المسمومة وأقواس النشّاب وأن صوري ستلصق على جميع الحيطان. وأن بصماتي ستوزع على جميع المخافر وأن جائزة كبرى ستعطى لمن يحمل لهم رأسي ليعلق على بوابة المدينة - كبرتقالة فلسطينية - عندما كتبت اسمك على دفاتر الورد كنت أعلم أن الأميين سيقفون ضدي... وكذلك كل العاطلين بالوراثة. عن ممارسة الحب وجميع المرضى بورم الجنس سيقفون ضدي... عندما قررت أن أقتل آخر الخلفاء وأعلن قيام دولة الحب تكونين أنت مليكتها كنت أعرف أن العصافير وحدها هي التي ستعلن الثورة معي.
وواصل نزار جرأته - كما هي عادته - وكتب إلى حبيبته قائلا: السنتان اللتان كنت فيهما حبيبتي. هما أهم صفحتين في حياتي في كتاب الحب المعاصر. كل الصفحات قبلهما بيضاء... وكل الصفحات بعدهما بيضاء... إنهما خط الاستواء المار بين فمك وفمي. وهما مقياس المراصد وتضبط عليه كل ساعات العالم... كلما طال شعرك طال عمري.
امرأة عادية
وفي رسالة أخرى يقول نزار قباني:
«كلما رأيتك أيأس من قصائدي... إنني لا أيأس من قصائدي إلا حينما أكون معك... جميلة أنت... إلى درجة أنني حين أفكر بروعتك... ألهث... تلهث لغتي وتلهث مفرداتي... خلصيني من هذه الأشكال... كوني أقل جمالا حتى أسترد شاعريتي... كوني امرأة عادية... تتكحل... وتتعطر... وتحمل... وتلد... كوني امرأة مثل جميع النساء حتى أتصالح مع لغتي... لست معلما لأعلمك كيف تحبين فالأسماك لاتحتاج إلى معلم لتتعلم كيف تسبح... والعصافير لا تحتاج إلى معلم لتتعلم كيف تطير.
اسبحي وحدك... وطيري وحدك... إن الحب ليس له دفاتر وأعظم عشاق التاريخ كانوا لا يعرفون القراءة... رسائلي إليك تتخطاني وتتخطاك لأن الضوء أهم من المصباح.
والقصيدة أهم من الدفتر. والقبلة أهم من الشفة. رسائلي إليك أهم منك وأهم مني. إنها الوثائق الوحيدة التي سيكتشف فيها الناس جمالك وجنونك.
هذا هو نزار قباني الشاعر، الذي كان يتنفس حبا وغزلا وعشقا، الذي توفي في العام 1998 عن عمر يناهز 75 عاما، قضى 50 عاما منها في الحب والسياسة والثورة... جميع الأساطير ماتت بموتك وانتحرت شهرزاد.