| سعاد العنزي |
/>للبداوة رائحة الهيل، وصهيل الخيل، وعبق الأصالة، ومواويل الربابة، وقصص الغزل العفيف، والبطولة والفروسية، بين فارس القبيلة، وراعي الأغنام، فروقات كبيرة، ولكنها رقعة ممتدة لشرائح المجتمع البدوي،، حيث الحداء، وصيحات الأبطال، في المعركة، حيث أغاريد النساء بالنصر المؤزر، حيث قساوة الصحراء، وتلقائية الأشياء، حيث السلوكيات تسير وفق الفطرة والسجية، ويبتعد البدوي عن تعقيدات المدنية، زيفها، وخداعها، وقتلها لقلب الإنسان، إنها ملمح جميل وظاهرة موضوعاتية، جميلة وباسمة وحالمة، في ديوان الشاعر حسن المطروشي «على السفح إياه» (1)، الذي يحتفي بروح البداوة، ويرثي فقدانها وطغيان حياة المدنية والحداثة عليها،، صراع بين البادية والمدينة، بين الصحراء والبحر، هي مجموعة احتفت بالإنسان بكامل علاقاته، وارتحالاته الروحية والمادية، وطغى فيها عنصر مهيمن على فضاء الديوان، قضية البداوة، والصفاء الروحي، ومتعلقات هذه الحياة، منذ أول عتبات النص، عنوان الديوان «على السفح إياه»، ليكون السفح ذلك المنحدر الذي شهد على تجربة الشاعر، وإياه، وشاية بأمر متعلق بذاكرة المؤلف، وقد يكون المتلقي، مشتركا معه في هذه الذاكرة المشتركة على نحو خاص بين الشاعر ومجموعة من الأشخاص الذين يوجه لهم خطابه في النص على مستوى شخصي، ناهيك عن المخاطبة للمتلقي بشكل عام، الذي يشترك مع الشاعر ويتقاطع مع هذه التجربة، في شيء منها إن لم يكن أشياء...على السفح إياه جلوس ومناظرة للقمر وتداعي تيار الذكريات، لتتعانق آلام الشاعر على الفقد جراء خواطر شغلت الإنسانية، خواطر جاءت في الليل، لأنها:
/>«كالسهم فلقت الظلمة»...
/>فهو يقول في إحدى المقابلات التي أجريت معه في جريدة الوقت العمانية معرفا ذاته: «كل ما أعرفه وأتذكره أنني خرجت ذات تيه من بيت أسرتي التي تقطن في منطقة ساحلية تدعى (شناص) في أقاصي الشمال من السلطنة، لأبحث عن ذاتي في المدائن والأرصفة والمطارات البعيدة، وها أنا ذا أقف على حافة الكون أحمل في قبضتي الكثير من الحنين والحزن والقصائد والفقد»(2).
/>قضية البداوة والمدنية قضية من أهم القضايا التي شغلت الشعر العربي قديمه وحديثه، ولعل من أقدم النصوص الشعرية التي تعالج هذه القضية، هو أبيات شعرية لزوجة معاوية بن أبي سفيان هند بنت عتبة، التي ما إن عاشت في المدينة، حتى سئمت من المدنية ومظاهر الترف والبذخ، فأنشدت:
/>إن بيتًا تخفق الرياح فيه
/>أحب إليّ من قصر منيف
/>وإن لبس عباءة وعيني قريرة
/>أحب إلي من لبس الملابس الشفافة
/>وأكل كسيرة من كسر بيتي
/>أحب إليّ من أكل الرغيف
/>وأصوات الرياح بكل مكان
/>أحب إليّ من نقر الدفوف
/>وكلب يطرد الناس من دوني
/>أحب إليّ من قط أليف
/>ورجل أبله من بني عمي نحيف
/>أحب إليّ من رجل ناعم سمين
/>خشونة عيشتي في البدو أشهى
/>إلى نفسي من العيش الظريف
/>فما أبغي سوى وطني بديلا
/>فحسبي ذاك من وطن شريف
/>هذه الأبيات التي حررت هند بنت عتبة من حياة المدنية، ولكن شاعرنا في حالته هذه، على الرغم من هذا الزخم في الكتابة الشعرية، لا يستطيع التحرر من المدنية، لأنها مطلب حضاري وضرورة حياتية، ولا يتمكن من العودة إلى روح البداوة إلا بالإجازات العابرة، فبقت البداوة وشما تشم ذاكرته وأدبه وشعره، ولذلك يقول في أول قصائد المجموعة: «أطل عليكم من هذه الكوة»:
/>سوف أطل عليكم ملتهبا من هذه الكوة
/>أسحب أغنامي،
/>وأعلق سرج أبي في نافذة حمراء
/>(الديوان، ص11)
/>ولكن هذه الروح ليست رواح بدوية خالصة، بل هي تتمازج وتتعانق مع معطيات الحداثة، وتستشرف الأفق الإنسانية الرحبة، ومطالعة جيدة للثقافات المتنوعة، فراحلته عدتها: (مصباح ديوجينو المتهالك، وعكاز القرصان الأحدب، صخرة سيزيف المنبوذ...).
/>والصفات التي تقترن بها عدته، المتهالك والأحدب والمنبوذ، يعطي علامة ناجزة على وحشية وبشاعة هذه المعطيات الحداثية، التي سوف ينطلق بها للمرور عبر المظلم والحالك في تاريخ البشرية:
/>أهتف للديموقراطية والأحزاب،
/>وأمتدح العملاء السحريين،
/>أعبئ كأسي بالتاريخ،
/>أهيئ رأسي مائدة للسائل والمحروم،
/>وأرفع عاصفتي فردا
/>في غالبية قصائد المجموعة تلوح صورة البداوة بكامل مفرداتها ومعطياتها، بل تتكرر فكرة الرحيل عن البادية وترك الديار والمضارب، ليقول في «الديار وراءك»:
/>الديار وراءك،
/>تلك مضاربها والطلول،
/>وتلك المواقد غارقة في رماد المواويل،
/>تلك هضاب الجميلة،
/>كنت تساورها بالقصيدة يوما،
/>هذه الجماليات المتأتية من الحياة المعاشة سابقا، والتي ودعها الشاعر ليعيش معطيات جديدة تتواتر بعدة في النصوص، التي توضح الفاصل الزماني والمكاني عن الحياة في البادية، بيد ان قصيدة، «على السفح إياه» تعاكس توجه النصوص نحو الرحيل، بالعودة إلى البادية، وتحديدا «على السفح إياه»، التي شهدت حالة شعرية/ إنسانية، العودة إلى الديار بعد الرحلة المضنية، هي عودة تذكر القارئ بعودة عوليس في الأوديسا، وعودة الولي الطاهر في رواية «الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي»، وعودة المفكرين والمهاجرين إلى أرض المنشأ، وكل عايش تجربة العودة بكامل تفاصيلها واختلاف ملابساتها، ولكنها دائما العودة تشهد على تحول، ودوما هو تحول للأسوأ، يحمل كثيرا من الفقد، ويكتسب مفهومه ومقداره من معطيات نفسية للعائد، فالشاعر عاد إلى خيام السلالة، يداهمه الصوت مسائلا ومعاتبا ولائما:
/>- عدت يا أيها القروي المحارب؟
/>سر يا غريب
/>إلى حيث تلتمع الكائنات الفتية
/>ثم على السفح إياه
/>يغفو الملاك.. ملاكك مؤتلفا كقمر
/>...
/>فماذا عساه وجد شاعرنا بعد العودة، والعتب والإقصاء:
/>مرور الحداة
/>مررت على ضفة الحزن سهوا
/>وجدت المزامير... قاحلة
/>وإني لأذكر
/>إني ودعت يوما هنا آخر القافلة
/>(الديوان، ص37)
/>فقد للمظاهر المحببة لقلبه والتي ترسخت بقلبه هالة حب واشتياق، فالملاك التي يسامرها على السفح إياه قد رحلت، هل هي هيلانة جديدة، أم ابنة الظروف والبيئة والعادات والتقاليد التي ستسير سيرورة كل الفتيات القاطنات خيام السلالة، تقدح في ذاكرته، ويناديها هلمي لنجمع كحل متاهاتنا، ولكن ما من مجيب، فتبقى المحبوبة أيقونة في ذاكرة الفقد في الصحارى النازحة صوب النسيان.
/>* كاتبة وناقدة كويتية
/>Mobdi3on@windowslive.com
/>(1) حسن المطروشي، ديوان «على السفح إياه»، مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2008م.
/>(2) جريدة الوقت، مسقط، العدد 475 - الأحد 24 جمادة الأولى 1428 هـ - 10 يونيو 2007.
/>