تتيح وسائل الإعلام والاتصال الحديثة العديد من الفرص الثقافية والسياسية المفيدة والجديدة التي لم تكن متاحة في عصر ما قبل الفضائيات، على سبيل المثال. وكمثال واحد على ذلك، يمكن انتقاء تجربة الإطلاع على «ثقافة المناظرات» الانتخابية، وهي جزء لا يتجزأ من الممارسات الديموقراطية الغربية التي كنا نكتفي بالسماع عنها عبر الصفحة المطبوعة والكلمة المكتوبة فقط: فقد سمعنا (عن بعد) عن مناظرة تاريخية بين مرشحين اثنين للرئاسة الأميركية في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، وهما جون كينيدي «الديموقراطي»، وريتشارد نيكسون «الجمهوري». ويبدو أن هذه المناظرة قد تركت أثراً عميقاً في الجماعية الأميركية والثقافة الشائعة إلى درجة اتخاذها تقليداً في جميع التنافسات الرئاسية التالية. لقد وفرت المناظرات الثلاث التي سبقت الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، التي جرت بعد تلك المناظرات وتأسيساً على معطياتها للجمهور، الفرص الثمينة للناخب الأميركي، ليس فقط للاطلاع على أفكار كل واحد من المرشحين على نحو مباشر، مرئي ومسموع، بل كذلك (ربما) للإطلاع على تفاصيل شخصية المرشح وطريقته في الكلام والجلوس واختيار الملابس والحفاظ على اللياقة عبر الحفاظ على مسافة لائقة بينه وبين منافسه، وكيفية تلقيه للنقد ثم كيفية الرد، زد على ذلك طريقته في انتقاء الألفاظ وحركة الجسم وتعابير الوجه والعيون، من بين أشياء أخرى «body language» لا يمكن أن تظهر إلا عبر مثل هذه المقابلات المباشرة والنادرة.
هذه جميعاً تأتي في قائمة «المحرمات» في الثقافة السياسية الشائعة عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث، للأسف؛ إذ لا تتاح الفرصة للجمهور بالإطلاع، مباشرة، على المرشحين كي يقرر هذا الجمهور من ينتقي ولماذا. وبذلك تتمكن «الديموقراطية الأميركية» أن تسجل هدفاً للفوز بسباق الديموقراطيات العالمية، هدفاً في شباك العديد من هذه الديموقراطيات التي تكتفي، على سبيل المثال، بتقديم المتنافسين على نحو غير مباشر أو بالإنابة عبر وسائل الإعلام الأثيرية واللافتات المعلقة والملصقات والصور والبيانات الانتخابية. هذه، بطبيعة الحال، طرائق مختلفة لعرض المرشحين وأفكارهم أمام الجمهور بهدف المساعدة على الاختيار الصحيح، بيد أنها جميعاً لا ترقى إلى فكرة الصراع المصور والمسموع على حلبة التلفاز. وهذا ما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة لنا الآن عبر تجربة الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إنه لمن نافل القول، أن يفكر المتابع في العالم النامي، عند الإطلاع على مثل هذه الممارسة الديموقراطية المفيدة: لماذا لا نفعل الشيء ذاته هنا؟ أي، لماذا لا نشاهد مناظرات من هذا النمط بين المرشحين للرئاسة والمرشحين للبرلمان أو للمجالس النيابية الوطنية أو لرئاسة الوزراء والحكومات؟ يبدو للمرء أن أسباب الحرمان من هذا النوع من المناظرات المباشرة لرؤية وسماع «من ننتخب» وننتقي، عديدة، ومنها أن طبيعة السلطة وإدارة القوى السياسية في مجتمعاتنا التقليدية تكمن في عدد من المسلمات، كأن يكون من المفترض أن يحرم المعارض من نعمة أو مَلَكة الصوت: فهو غالباً ما يكون مغموراً ومغموط الحقوق، لا يسمح بسماع صوته: ليس لأنه أخرس، ولكن لأنه يتجاوز حدوده، أو حدود «اللياقة» في طرائق مواجهته للأعلى أو للسلطة. من هنا صار تقليد المناظرة تقليداً غريباً
ومضطرباً، بل ومرفوضاً في ثقافتنا وفي عالم يكون فيه صاحب اليد العليا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج الصوت المسموع، بينما يكون غيره أخرس لا قدرة لديه على التعبير عما يريد.
لنلاحظ العديد من الممارسات الانتخابية في عالمنا الذي غالباً ما نسميه بـ«العالم الثالث» (عدا الهند، مثلاً)، إذ نجد أن أهم أسلحة مواجهة التغيير ومقاومة الجديد هو سلاح حرمان الخصم من أن يُسمع صوته. هذا لا ينطبق على الحياة السياسية الأميركية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتنافس على مؤسسة الرئاسة فيها. في عالمنا «الدافئ» تكون الانتخابات الرئاسية بلا منافس أو تنافسات، إذ غالباً ما يُسمى الرئيس ويكتفي الجمهور بالاحتفاء والاحتفال بـ«الترئيس». وهكذا صار هذا تقليداً مؤسفاً حرم العديد من المنافسين الجيدين من فرص التنافس والخدمة العامة في عالمنا. أنا شخصياً قضيت حياتي في جمهورية لم ينتخب لها رئيس واحد قط. منذ تأسيسها في 14 يوليو عام 1958. الرؤساء يأتون ويذهبون مثل الغيوم العابرة، أي بالانقلابات العسكرية أو بالتغيرات العنيفة، إن لم يكن بتناسل السلطة أو توريثها. وللجمهور الاكتفاء بالقبول بالأمر «الواقع» الممرر عبر الإعلام الوحيد الجانب، المركزي أو «الموجه». ليس لدينا الوقت الكافي للمناظرات ولمثل هذا «الهراء الأميركي»، ذلك أن الرئاسة تأتي وتذهب بطرائق أخرى، تتبعاً لخطى الأقدمين، ومنها طريقة «البيان رقم واحد» الذي تعودنا سماعه على حين غرة في إحدى صباحات شهر يوليو، شهر الثورات!
لقد حاول الرئيس العراقي السابق صدام حسين استثمار الارتكان الأميركي إلى المناظرة وثقافتها الشائعة من أجل تحقيق مكاسب في الصراع الذي نشب مع الغرب بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، مقترحاً على الرئيس السابق جورج بوش الأب نوعاً من «المناظرة» بواسطة تسجيل نداء أو حديث للرئيس الأميركي موجه إلى الشعب العراقي، مقابل حديث للرئيس السابق موجه إلى الشعب الأميركي، لعلّ في ذلك خلاصاً من الحرب التي كانت محققة، لا مفر منها. بيد أن هذه اللعبة لا يمكن لنا إتقانها أو لعبها بالطريقة الصحيحة في مقابل من هم خبراء بها، كالرئيس الأميركي أعلاه، فكانت النتيجة الضحك على الإعلام العراقي المركزي «الموجه» الذي سارع عام 1991 على عرض حديث بوش للجمهور العراقي عبر محطة التلفاز الوحيدة العاملة في العراق وقتذاك، إذ كانت الفضائيات من المحرمات، بينما رد البيت الأبيض بأنه لا يستطيع أن يفرض على الجمهور وعلى شبكات التلفاز الأميركية عرض حديث للرئيس السابق صدام حسين بطريقة قسرية، الأمر الذي أشعر النظام العراقي بأنه قد استُغفل ببساطة متناهية. وقد حاول الرئيس السابق فعل الشيء نفسه في مقابلته الشهيرة مع صحافي الـ«CBS» دان راذر الشهير قبل حرب 2003 ببضعة أيام، إذ إنه طالب مناظرة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، الأمر الذي قاد إلى شعور دان راذر بالمفاجأة والذهول، خصوصاً أن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. لم تتحقق المناظرة التي طالب الرئيس السابق بها، ولم تتمكن من إعطائه الفرصة لتبرير الوضع المعقد بين العراق والولايات المتحدة، ولو أن مناظرة من هذا النوع قد عقدت بوساطة دان راذر، لكانت اليوم قد عرضت آلاف، بل مئات الآلاف من المرات كي يحفظها الجمهور العراقي عن ظهر قلب: ثلاث مرات يومياً، مرة مع الفطور والثانية مع الغداء، وثالثة بعد العشاء!
إن خلاصة الكلام تتجسد في أن الديموقراطيات الفتية في الدول النامية هي بحاجة إلى ممارسات أعمق تسمح لها بالخروج من سلة العالم الثالث التقليدي إلى صنف العالم المتقدم، إذ يكون لكل متنافس صوته المسموع وصورته المرئية، كما يحدث اليوم في العالم الغربي الذي نخصه بنظرات الاحتقار الدونية ولا نملك من الأدوات التي تجعله يخصنا بما يكفي من التقدير.
د. محمد الدعمي
أستاذ محاضر في جامعة ولاية أريزونا، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org
هذه جميعاً تأتي في قائمة «المحرمات» في الثقافة السياسية الشائعة عبر التاريخ الحديث للعالم الثالث، للأسف؛ إذ لا تتاح الفرصة للجمهور بالإطلاع، مباشرة، على المرشحين كي يقرر هذا الجمهور من ينتقي ولماذا. وبذلك تتمكن «الديموقراطية الأميركية» أن تسجل هدفاً للفوز بسباق الديموقراطيات العالمية، هدفاً في شباك العديد من هذه الديموقراطيات التي تكتفي، على سبيل المثال، بتقديم المتنافسين على نحو غير مباشر أو بالإنابة عبر وسائل الإعلام الأثيرية واللافتات المعلقة والملصقات والصور والبيانات الانتخابية. هذه، بطبيعة الحال، طرائق مختلفة لعرض المرشحين وأفكارهم أمام الجمهور بهدف المساعدة على الاختيار الصحيح، بيد أنها جميعاً لا ترقى إلى فكرة الصراع المصور والمسموع على حلبة التلفاز. وهذا ما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة لنا الآن عبر تجربة الانتخابات الرئاسية الأميركية.
إنه لمن نافل القول، أن يفكر المتابع في العالم النامي، عند الإطلاع على مثل هذه الممارسة الديموقراطية المفيدة: لماذا لا نفعل الشيء ذاته هنا؟ أي، لماذا لا نشاهد مناظرات من هذا النمط بين المرشحين للرئاسة والمرشحين للبرلمان أو للمجالس النيابية الوطنية أو لرئاسة الوزراء والحكومات؟ يبدو للمرء أن أسباب الحرمان من هذا النوع من المناظرات المباشرة لرؤية وسماع «من ننتخب» وننتقي، عديدة، ومنها أن طبيعة السلطة وإدارة القوى السياسية في مجتمعاتنا التقليدية تكمن في عدد من المسلمات، كأن يكون من المفترض أن يحرم المعارض من نعمة أو مَلَكة الصوت: فهو غالباً ما يكون مغموراً ومغموط الحقوق، لا يسمح بسماع صوته: ليس لأنه أخرس، ولكن لأنه يتجاوز حدوده، أو حدود «اللياقة» في طرائق مواجهته للأعلى أو للسلطة. من هنا صار تقليد المناظرة تقليداً غريباً
ومضطرباً، بل ومرفوضاً في ثقافتنا وفي عالم يكون فيه صاحب اليد العليا هو الكائن الوحيد القادر على إنتاج الصوت المسموع، بينما يكون غيره أخرس لا قدرة لديه على التعبير عما يريد.
لنلاحظ العديد من الممارسات الانتخابية في عالمنا الذي غالباً ما نسميه بـ«العالم الثالث» (عدا الهند، مثلاً)، إذ نجد أن أهم أسلحة مواجهة التغيير ومقاومة الجديد هو سلاح حرمان الخصم من أن يُسمع صوته. هذا لا ينطبق على الحياة السياسية الأميركية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالتنافس على مؤسسة الرئاسة فيها. في عالمنا «الدافئ» تكون الانتخابات الرئاسية بلا منافس أو تنافسات، إذ غالباً ما يُسمى الرئيس ويكتفي الجمهور بالاحتفاء والاحتفال بـ«الترئيس». وهكذا صار هذا تقليداً مؤسفاً حرم العديد من المنافسين الجيدين من فرص التنافس والخدمة العامة في عالمنا. أنا شخصياً قضيت حياتي في جمهورية لم ينتخب لها رئيس واحد قط. منذ تأسيسها في 14 يوليو عام 1958. الرؤساء يأتون ويذهبون مثل الغيوم العابرة، أي بالانقلابات العسكرية أو بالتغيرات العنيفة، إن لم يكن بتناسل السلطة أو توريثها. وللجمهور الاكتفاء بالقبول بالأمر «الواقع» الممرر عبر الإعلام الوحيد الجانب، المركزي أو «الموجه». ليس لدينا الوقت الكافي للمناظرات ولمثل هذا «الهراء الأميركي»، ذلك أن الرئاسة تأتي وتذهب بطرائق أخرى، تتبعاً لخطى الأقدمين، ومنها طريقة «البيان رقم واحد» الذي تعودنا سماعه على حين غرة في إحدى صباحات شهر يوليو، شهر الثورات!
لقد حاول الرئيس العراقي السابق صدام حسين استثمار الارتكان الأميركي إلى المناظرة وثقافتها الشائعة من أجل تحقيق مكاسب في الصراع الذي نشب مع الغرب بعد غزو دولة الكويت الشقيقة، مقترحاً على الرئيس السابق جورج بوش الأب نوعاً من «المناظرة» بواسطة تسجيل نداء أو حديث للرئيس الأميركي موجه إلى الشعب العراقي، مقابل حديث للرئيس السابق موجه إلى الشعب الأميركي، لعلّ في ذلك خلاصاً من الحرب التي كانت محققة، لا مفر منها. بيد أن هذه اللعبة لا يمكن لنا إتقانها أو لعبها بالطريقة الصحيحة في مقابل من هم خبراء بها، كالرئيس الأميركي أعلاه، فكانت النتيجة الضحك على الإعلام العراقي المركزي «الموجه» الذي سارع عام 1991 على عرض حديث بوش للجمهور العراقي عبر محطة التلفاز الوحيدة العاملة في العراق وقتذاك، إذ كانت الفضائيات من المحرمات، بينما رد البيت الأبيض بأنه لا يستطيع أن يفرض على الجمهور وعلى شبكات التلفاز الأميركية عرض حديث للرئيس السابق صدام حسين بطريقة قسرية، الأمر الذي أشعر النظام العراقي بأنه قد استُغفل ببساطة متناهية. وقد حاول الرئيس السابق فعل الشيء نفسه في مقابلته الشهيرة مع صحافي الـ«CBS» دان راذر الشهير قبل حرب 2003 ببضعة أيام، إذ إنه طالب مناظرة مع الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، الأمر الذي قاد إلى شعور دان راذر بالمفاجأة والذهول، خصوصاً أن الحرب كانت قاب قوسين أو أدنى. لم تتحقق المناظرة التي طالب الرئيس السابق بها، ولم تتمكن من إعطائه الفرصة لتبرير الوضع المعقد بين العراق والولايات المتحدة، ولو أن مناظرة من هذا النوع قد عقدت بوساطة دان راذر، لكانت اليوم قد عرضت آلاف، بل مئات الآلاف من المرات كي يحفظها الجمهور العراقي عن ظهر قلب: ثلاث مرات يومياً، مرة مع الفطور والثانية مع الغداء، وثالثة بعد العشاء!
إن خلاصة الكلام تتجسد في أن الديموقراطيات الفتية في الدول النامية هي بحاجة إلى ممارسات أعمق تسمح لها بالخروج من سلة العالم الثالث التقليدي إلى صنف العالم المتقدم، إذ يكون لكل متنافس صوته المسموع وصورته المرئية، كما يحدث اليوم في العالم الغربي الذي نخصه بنظرات الاحتقار الدونية ولا نملك من الأدوات التي تجعله يخصنا بما يكفي من التقدير.
د. محمد الدعمي
أستاذ محاضر في جامعة ولاية أريزونا، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org