No Script

أصبح في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس وأوقع بينهم العداوة والبغضاء

الاختلاف في الرأي... أمر حتمي لا مفرّ منه ... أقرّه الإسلام لكن بقواعد وأصول

u0627u0644u062fu0643u062au0648u0631 u0639u0628u062f u0627u0644u0631u0624u0648u0641 u0627u0644u0643u0645u0627u0644u064a
الدكتور عبد الرؤوف الكمالي
تصغير
تكبير
• الكمالي : يجب أن نحسن الظن بعلماء المسلمين السابقين والمعاصرين ... الموافقين والمخالفين

• أنصح لنفسي ولإخواني طلاب العلم العناية بالإخلاص لله وأن يكون رضاه سبحانه هو هدفنا وغايتنا

• الاختلاف أمر موافق لطبع الإنسان وصفاته يقع في جميع العصور والأماكن على كثرتها وتنوعها

• الاختلاف المقبول هو الذي يُعذر فيه صاحبه ... فلا ينسب إلى الفسق أو البدعة أو الكفر أو نحو ذلك

• الاختلاف المردود والمذموم الذي لا يعذر فيه صاحبه هو ما كان في المسائل القطعية

• ضعف الخلاف وقوته يبقى أمراً نسبياً يختلف تقديره من شخص لآخر
الكلام على اختلاف أهل العلم وأسبابه طويل، وقد أُلِّفت فيه الكتب وتكلِّم عنه جمهرة من أهل العلم في مختلف العصور، بل إن كثيراً من الخلاف بين أهل العلم في القديم والحديث لا محيد عنه ولا مفرّ، وهو أمر من طبيعة اختلاف البشر واجتهاداتهم وتباين آرائهم وأنظارهم.

وقد أقرَّ الدِّين الإسلامي مبدأ الاختلاف، كحقيقة تتناسَب واختلاف الشعوب والعقليَّات والأفهام، وتتوافق مع التطوُّرات والنوازل التي تعترض الإنسان، ولا يكون الاختلاف إلاَّ في حدود ما تفرَّع عن الأصول، اعتمادًا على شروط تمنعه أنْ يصير جدالاً، فنزاعًا وعَداوة، وقد نَهى الله عن ذلك؛ لِمَا للفُرقة من عيوب تتجاوز حدَّ الفَهم السليم للقصْد من خَلْق الإنسان. ونظرًا لأهميَّة تدبير الخلاف وحيويَّته، تولَّى الحقُّ سبحانه وضْعَ منهجيَّة عمليَّة في التعامُل مع المُخالِف، فقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].

ولقد دفَع ذلك خيرَ الأُمَّة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى اتِّخاذ الحوار الهادئ منهجًا لإبلاغ رسالته للناس كافَّة، ومنهم المشركون وأهل الكتاب.
وهكذا تشكَّلت رؤية ناضجة لقضيَّة الاختلاف، وبَنَى عليها العلماء آراءَهم، فنرى الشافعي يقول: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». ونرى مالك بن أنس يقرُّ بالاجتهاد والتعدُّدية الفكريَّة، ويرفض أن يفرضَ (الموطَّأ) على الناس.

وقد أصبح موضوع الخلاف وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثّها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لاسيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف.
يقول العلامة بن عثيمين رحمه الله تعالى : «إن من نعمة الله تبارك وتعالى على هذه الأُمَّة أن الخلاف بينها لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصيلة، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون».

ونظرا لما هو حادث الآن في موضوع الخلاف بعد أن حاد بعضه عن جادة الصواب وأصبح مصدرا لكثير من النزاعات والمشاكسات،بل إن البعض قد لجأ إلى القضاء ليقتص من المخالف الذي تطاول عليه سبا أو تجريحا من دون مراعاة للأصول والقواعد التي وضعها الإسلام في هذا الصدد وسار عليها سلفنا الصالح وضربوا أروع المثل في كيفية الاختلاف في الرأي مع احترام المخالف وعدم الطعن فيه.

لقد أثر هذا الموضوع تأثيرا سلبيا على الكثيرين من الناس وأوقع بينهم العداوة والبغضاء، لذلك رأينا أن نطرح هذا الأمر على الدكتور عبدالرؤوف الكمالي الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية –كلية التربية الأساسية- والداعية الإسلامي المعروف، ليبين لنا حقيقة موضوع الخلاف في الشريعة الإسلامية، وبيان قواعده وأصوله، وبيان المقبول والمردود منه،وذلك من خلال نظرة موضوعية للاختلافات الحادثة في هذه الأيام وما يترتب عليها من آثار سلبية على الفرد والجماعة... فتابع معنا،،،

بدأ الدكتور عبد الرؤوف الكمالي حديثه عن «الاختلاف» بقوله: ان موضوع «الاختلاف وبيان قواعده وما يتعلق به يعد من اهم الموضوعات التي تخص طلبة العلم ولاسيما في ايامنا هذه، وذلك نظرا لكثرة الاختلافات الواقعة اليوم التي لها آثار كبيرة في الافراد والمجتمع.

أمر حتمي

ان الاختلاف بين الناس أمر حتمي لا مفر منه، فهو أمر موافق لطبع الانسان وصفاته، ولذا تجده واقعا في جميع العصور والاماكن على كثرتها وتنوعها، ولا أدل على ذلك من وقوعه في أشرف العصور وخيرها، وبين خيار الناس بعد الانبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، واستمر هذا الاختلاف الى عصر التابعين وتابعيهم، وهكذا الى يومنا هذا.

المقبول والمردود

الاختلاف المقبول الذي يعذر فيه صاحبه، والاختلاف المردود الذي لا يعذر فيه صاحبه:

هذه النقطة هي اهم نقطة في تأصيل قواعد الاختلاف، وهي في غاية الحساسية والدقة، لأنها الاصل الاول الذي يبنى عليه الموقف في الاختلاف والتعامل مع المخالف، وأعني بالاختلاف المقبول الذي يعذر فيه صاحبه: اي فلا ينسب الى الفسق او البدعة او الكفر ونحو ذلك، وإنما يتعامل معه على انه أمر مستساغ ومقبول، واما النوع الآخر من الاختلاف الذي لا يعذر فيه صاحبه، فهو الذي ينسب فيه الى شيء مما ذكر مما يعد معه انحرافا وزيغا، وهذا هو الاصل والغالب في الاطلاق، فهو يشمل عند التعيين من عَلِمَ بطبيعة المسألة وأدلتها ومرتبتها.

فالخلاف المردود المذموم الذي لا يعذر فيه صاحبه: هو ما كان في المسائل القطعية التي أجمع عليها العلماء، وكان الاجماع فيها واضحا، فهذه المسائل قطعية في أدلتها، قطعية في ثبوت هذه الادلة ككونها في كتاب الله عز وجل، وقطعية في دلالتها لا تحتمل وجها آخر في فهمها، ولهذا لم يختلف فيها العلماء، وسواء أكانت هذه المسائل من مسائل الاخبار والاعتقاد، ام من مسائل الاعمال والفقه، ويسمي كثير من العلماء النوع الاول بمسائل أصول، والنوع الثاني بمسائل فروع، وهذه تسميات محدثة ولا مشاحة في الاصطلاح لكن الاشكال فيما يرتب على هذا التقسيم بشكل عام، دون النظر في تفصيل المسائل وحقائق مراتبها، بالنظر الى أدلتها التي ثبتت بها.

فمن المسائل القطعية في الدين - مع انها من مسائل الاعمال والفقه - وجوب الصلاة والزكاة والصيام ونحو ذلك، وحرمة الزنا والربا وشرب الخمر ونحو ذلك. ومن المسائل القطعية من مسائل الاخبار والاعتقاد: العلم بأن الله تعالى هو الخالق الرازق، المحيي المميت، وانه على كل شيء قدير، وانه سميع بصير، وان القرآن كلام الله تعالى ونحو ذلك.

أصول وفروع

قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «... ان المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، وان سميت تلك (مسائل أصول) وهذه: (مسائل فروع)، فإن هذه تسمية محدثة قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين...».

ثم قال: «بل الحق: ان الجليل من كل واحد من الصنفين (مسائل أصول) والدقيق (مسائل فروع)، فالعلم بوجوب الواجبات - كمباني الاسلام الخمس وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، كالعلم بأن الله على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وانه سميع بصير، وان القرآن كلام الله، ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة، ولهذا من جحد تلك الاحكام العملية المجمع عليها كفر، كما ان من جحد هذه كفر» انتهى من «مجموع الفتاوى» (56/6، 57).

ثم شرح شيخ الاسلام - رحمه الله - ما يترتب على القول بأن المسائل الخبرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية، فقال: «وقولنا: انها قد تكون بمنزلتها يتضمن اشياء: منها: انها تنقسم الى قطعي وظني. ومنها: ان المصيب وان كان واحدا، فالمخطئ قد يكون معفوا عنه، وقد يكون مذنبا، وقد يكون فاسقا، وقد يكون كالمخطئ في الاحكام العملية سواء، لكن تلك (يعني: العملية) لكثرة فروعها والحاجة الى تفريعها، اطمأنت القلوب بوقوع التنازع فيها والاختلاف، بخلاف هذه (يعني الخبرية الاعتقادية)، لأن الاختلاف هو مفسدة لا يحتمل الا لدرء ما هو اشد منه»... ا هـ (58/6).

فتأمل قول شيخ الاسلام - رحمه الله - عن المخطئ في المسائل الخبرية الاعتقادية: «وقد يكون كالمخطئ - في الاحكام العملية سواء»، اي: فيكون مأجورا بصدق نيته واجتهاد، فإن أصاب كان له أجران، وان أخطأ كان له أجر واحد.

كما قال صلى الله عليه وسلم: «اذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، واذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» رواه البخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.

مخالف القطعي المجمع عليه

ولهذا، فان الحكم العام المطلق لمن خالف قطعياً في الدين مجمعا عليه، انه مذموم وملام، نسب الى الفسق او البدعة، وربما الى الكفر، بحسب ما خالف منه وقصده في ذلك. وهذا حكم عام مطلق ليس على التعيين بفلان او فلان من الناس، فان الحكم على التعيين يحتاج الى اقامة الحجة عليه، وألا تكون هناك موانع من اطلاقه بحكم عليه، كأن لم يقم عنده القطع بالنص او العلم باجماع الامة عليه ونحو ذلك، ولكن هذا استثناء من اجل الحكم على شخص بعينه، لكنه لا يمنع من اطلاق الحكم بصفة عامة.

وعلى هذا، فان الجهمية الذين نفوا صفات الله تعالى وقالوا بخلق القرآن، والخوارج الذين كفّروا المسلمين بالذنوب الكبائر، والقدرية الذين نفوا قدر الله تعالى، فانهم من اهل البدع، لمخالفتهم للقطعيات واجماع الامة وشذوذهم عنهم في ذلك، ولكن مع ذلك لا يكفرون، لان الكفر في مثل هذه الامور يحتاج الى قصد الجحود والانكار للنصوص، وهذا لا يتحقق الا باقامة الحجة ومعرفة حال الشخص على التعيين.

قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - : «وكنت ابين لهم (اي: لمن جالسه): ان ما نقل عن السلف والائمة من اطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو - ايضاً - حق، لكن يجب التفريق بين الاطلاق والتعيين».

قال - رحمه الله -: «وكنت دائما اذكر الحديث الذي في الصحيحين، في الرجل الذي قال: (اذا انا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً ما عذبه احداً من العالمين، ففعلوا به ذلك، فقال الله: - ما حملك على ما فعلت؟

قال: خشيتك، فغفر له). فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي اعادته اذا ذُري، بل اعتقد انه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلاً لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله ان يعاقبه، فغفر له بذلك، والمتأول من اهل الاجتهاد الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا»، انتهى كلام شيخ الاسلام رحمه الله من «مجموع الفتاوى» (3/ 230، 231).

مخالف غير القطعي المختلف فيه

أما من خالف في الدين ما ليس بقطعي، وكان من اهل العلم الذين يجوز لهم الاجتهاد، فاجتهد، فانه معذور وان لم يصب الحق، بل هو معذور ولو كان خلافه في مسألة من مسائل الاعتقاد ما دام انه اراد الحق وصدق فيه، كما هو الاصل والشأن في علماء هذه الامة، فاننا اذا كنا مأمورين باحسان الظن على العموم، فكيف بعلماء الامة الذين هم خواصها وافضلها؟

قال شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله: «... هذا، مع اني دائماً - ومن جالسني يعلم ذلك مني - اني من اعظم الناس نهياً عن ان ينسب معين الى تكفير وتفسيق ومعصية، الا اذا علم انه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً اخرى، وعاصياً اخرى، واني اقرر ان الله قد غفر لهذه الامة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخيرية القولية والمسائل العملية.

وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد احد منهم على احد، لا بكفر ولا بفسق ولا معصية، كما انكر شريح قراءة من قرأ: (بل عجبتُ ويسخرون) (يعني بضم التاء من عجبت) وقال: ان الله لا يعجب، فبلغ ذلك ابراهيم النخعي فقال: انما شريح شاعر يعجبه علمه، كان عبدالله اعلم منه وكان يقرأ: (بل عجبتُ) (يعني: بضم التاء).

وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم، ربه وقالت: «من زعم ان محمداً رأى ربه فقد اعظم على الله الفرية»، ومع هذا، لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها: انه مفتر على الله.

وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء اهله، وغير ذلك.

وقد آل الشر بين السلف الى الاقتتال، مع اتفاق اهل السنة على ان الطائفتين جميعاً مؤمنتان، وان الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم، لان المقاتل وان كان باغياً فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق» انتهى كلام شيخ الاسلام من «مجموع الفتاوى» (3/ 229، 230).

حديث الصلاة في بني قريظة

إذا ذكر موضوع الخلاف، فلزاماً ان يذكر حديث الصلاة، في بني قريظة، فانه اصل نفيس في ذلك، وقاعدة عظيمة فيه، والحديث في الصحيحين، قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الاحزاب: لا يصلين احد العصر إلّا في بني قريظة، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحداً منهم».

فتأمل هذا الحديث الذي لم يختلف الصحابة اصحاب هذه القضية في علمهم به، فهو قطعي الثبوت، فأما دلالته، فلقائل ان يقول: انه قطعي في عدم الصلاة الا في بني قريظة، او هو ظاهر في هذا المعنى لاطلاقه، ولقائل ان يقول: ان هذا النص مع ظهوره الا انه مقيد بما اذا لم يخرج الوقت، لقوله تعالى: (ان الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً)، وانما اراد الرسول صلى الله عليه وسلم الاسراع، ولاجل هذين الفهمين المحتملين في حقيقة الامر، اختلف الصحابة رضى الله عنهم، فصلاها بعضهم في الطريق لما خشي خروج الوقت، واخر بعضهم صلاتها الى حين ان وصل الى بني قريظة، عملا بظاهر اللفظ.

وتأمل كيف ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا منهم، لهذا الاحتمال الذي جعل كل طائفة تجتهد، وان كان كل فريق كان يعتقد ان ما فعله هو الظاهر والصواب،، والاعجب في الامر ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر من الذي كان معه الصواب، وماذا كان مراده في حقيقة الامر، صلى الله عليه وسلم.

ومن اجل ذلك، تجد ان العلماء الذين جاؤوا بعد ذلك قد اختلفوا فهذا ابن حزم الظاهري - رحمه الله - يقول في كتابه «جوامع السير النبوية» (ص 152) «اما التعنيف فإنما يقع على العاصي المتعمد المعصية وهو يعلم انها معصية، واما من تأول - قصدا للخير - فهو وان لم يصادف الحق غير معنف».

قال: «وعلم الله تعالى: اننا لو كنا هناك ما صلينا العصر في ذلك اليوم إلا في بني قريظة ولو بعد ايام».

ويعلق العلامة ابن كثير - رحمه الله تعالى - على قول ابن حزم هذا في كتابه «الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم» (ص 172): «اما ابن حزم فمعذور، لانه من كبار الظاهرية، ولا يمكنه العدول عن هذا النص...»، ثم قال: «الذين صلوا العصر في وقتها حازوا قصب السبق، لانهم امتثلوا امره صلى الله عليه وسلم في المبادرة الى الجهاد وفعل الصلاة في وقتها، ولاسيما صلاة العصر التي اكد الله سبحانه المحافظة عليها في كتابه بقوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) وهي العصر على الصحيح المقطوع به ان شاء الله من بضعة عشر قولا، والتي جاءت السنة بالمحافظة عليها».

ثم قال ابن كثير: «والحاصل: ان الذين صلوا العصر في الطريق جمعوا بين الادلة، وفهموا المعنى فلهم الاجر مرتين، والاخرين حافظوا على امره الخاص، فلهم الاجر، رضي الله عن جميعهم وارضاهم»، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله.

ومن هذه القصة يتضح - ايضا - ان ضعف الخلاف وقوته يبقى امرا نسبيا يختلف تقديره من شخص لاخر، فلذا كان القول بأنه متى ما كانت المسألة مجمعا عليها لم يجز الخلاف فيها، وإلا فالامر يسع فيه الخلاف وان كان المخالف يراه بعيدا جدا او ضعيفا.

وهذا يجرنا الى ذكر كلام نفيس للامام الشافعي رحمه الله تعالى، يعذز فيه المخالف في مسائل قد ذكرها بعض العلماء - بعد ذلك - على انها من الخلاف الضعيف.

أعذار المخالف

كلام نفيس للامام الشافعي في اعذار المخالف في مسائل يعدها بعض العلماء من الخلاف الضعيف:

قال الشافعي - رحمه الله - في كتابه الفذ العظيم «الأم» (222/6، 223): «والمستحل لنكاح المتعة والمفتى بها والعامل بها، ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسرا فنكح امة مستحلا لنكاحها - مسلمة او مشركة - (يعني مع مخالفته لنص الاية: (ومن لم يستطع منكم طولاً ان ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات)، لانا نجد من مفتي الناس واعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يدا بيد والعامل به، لانا نجد من اعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لاتيان النساء في ادبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم وان خالفنا الناس فيه فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا الى ان نجرحهم ونقول لهم: انكم حللتم ما حرم الله واخطأتم، لانهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا الى انه حرم ما احل الله عز وجل» انتهى كلام الشافعي رحمه الله.

فتدبر كلام هذا الامام الفقيه، ولاسيما اخر ثلاثة اسطر مما نقلته منه.

العبرة في مسائل الخلاف بالمضامين والمسميات

لا بالأوصاف والأسماء

هذا عود على بدء وتذكير لما اشرت اليه في بداية هذا الموضوع، وهو ان الخلاف انما يرد ويذم ولايعذر فيه صاحبه، حين يخالف المقطوع به والمجمع عليه، ويقبل ويعذر فيه صاحبه اذا كان في الظن والمختلف فيه، دون النظر الى ابواب تلك المسائل واسماء تلك الابواب ونحو ذلك مما يخرجنا عن حقيقة الخلاف، وقد سبق ذكر كلام شيخ الاسلام ابن تيمية - رحمه الله - حين قال: «وإنني اقرر ان الله قد غفر لهذه الامة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية» انتهى.

ختام ونصيحة

وفي ختام هذه الكلمات، انصح لنفسي اولا ثم لاخواني الفضلاء طلاب العلم بالعناية بالاخلاص لله تعالى، وان يكون رضا الله عز وجل هو هدفنا، وان نراجع انفسنا في ذلك كثيرا، وان يكون الاصل في حكمنا وخطابنا هو الرفق والتؤدة والحلم والأناة، وان نحسن الظن بعلماء المسلمين السابقين منهم والمعاصرين الموافقين والمخالفين، ما استطعنا الى ذلك سبيلا، وان يكون في خطابنا الادب الرفيع، والخلق النبيل (وقل لعبادي يقولوا التي هي احسن ان الشيطان ينزغ بينهم ان الشيطان كان للانسان عدوا مبينا).

لحوم العلماء مسمومة...!

إن من تعظيم حرمات الله تعظيم ما أمر الله بإكرامه وإجلاله، وأولى الناس بذلك هم العلماء.

قال تعالى: ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وقال عز من قائل: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا.

وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن الله عز وجل قال: «من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».

قال الحافظ ابن عساكر: ان لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.

وإن المسيء إلى العلماء، والطاعن عليهم بغيًا وعدوًا، قد ركب متن الشطط، ووقع في أقبح الغلط، لأن حرمة العلماء مضاعفة، وحقوقهم متعددة، فلهم كل ما ثبت من حقوق المسلم على أخيه المسلم، ولهم حقوق المسنين والأكابر، ولهم حقوق حملة القرآن الكريم ولهم حقوق العلماء العاملين، والأولياء الصالحين.

وروي عن الإمام أحمد قوله: « لحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن أكلها مات».

فهؤلاء المغتابون المتجرئون على العلماء، الناعقون بين الرعاع هم الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن من الناس مفاتيح للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه».

فكم صد أولئك عن الخير وفتحوا أبواب الشر بطعنهم في العلماء وتجريئهم السفهاء، وغمزهم إياهم بالألفاظ النابيات، فيا ليتهم عقدوا مجالسهم للذكر والقرآن، وتدبر السنة وعلم البيان، فما انتفعوا بما قالوا، ولا نفعوا إخوانهم إذ وثقوا بهم.

قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى (28-15) وليس للمعلمين أن يخربوا الناس ويفعلوا ما يلقى بينهم العداوة والبغضاء، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البر والتقوى وإذا وقع بين معلم ومعلم وتلميذ وتلميذ أو معلم وتلميذ خصومة أو مشاجرة لم يجز لأحد أن يعين أحدهما حتى يعلم الحق فلا يعاونه بجهل ولا بهوى.

فلما كان الكلام في المسلم عظيم الخطورة، وخيم العاقبة، وجب التورع في الكلام عن المسلم عامة وعن أهل العلم خاصة.

قال الإمام النووي في رياض الصالحين تحت كتاب الأمور المنهي عنها: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يَعْدِلُها شيء.

ثم قال: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي، لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو بستة أسباب:

1- التظلم.

2- الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب.

3- الاستفتاء.

4- تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة.

5- أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب.

6- التعريف إذا كان الإنسان معروفًا بلقب كالأعمش. اهـ بتصرف.

وعلى هذا قام علم الجرح والتعديل ووضع العلماء له الضوابط التي تسير عليها، فهو علم اختص به جماعة من الأفذاذ وليس مسرحًا لأنصاف طلاب العلم ولا المتعالمين الجهال.

قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ (1-4) حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم- جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والاتقان وإلا تفعل:

فإن آنست من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا وإلا فلا تفعل، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب فبالله لا تتعب وإن عرفت أنك مخلط مخبِّط مهمل لحدود الله فأرحنا منك. اهـ.

فكيف لو رأى الإمام الذهبي أهل زماننا ممن لا يعد من طلاب العلم، وليس منهم ولا على طريقتهم، ثم تراه نصب نفسه إمامًا في علم الجرح والتعديل وهو لم يتأهل بعد:

«وكيف يطير ولما يريِّش بعدُ»؟!

ورحم الله الذهبي عندما قال: فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت ألا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب.
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي