قراءة في قصيدة

«إنها الخز الموشى بالذهب» ليوسف الشطي ... عُمقُ الانتماءِ في فضاءِ الشِّعر

u064au0648u0633u0641 u0627u0644u0634u0637u064a
يوسف الشطي
تصغير
تكبير
ينطلقُ الشاعرُ يوسف الشطي مدفوعاً بالطاقةِ السحريَّةِ لأيقونةِ التأكيدِ «إنَّ» في صدر الجملةِ الخبريَّة المكوَّنةُ من المبتدأ والخبر «إنَّها الخزُّ الموشى بالذَّهب»؛ حيثُ تأتي الجملةُ الخبريةِ على أكتاف بنيةِ الإزاحةِ والتغليب، فهي وكأنَّها إجابةٌ لتساؤلٍ أوتساؤلاتٍ عن سببِ هذه الحالةِ منَ العشقِ والهيامِ غير العادي التي عليها الشاعر، فهو يستبقُ سائليهِ بعقيدةٍ ثابتةٍ راسخةٍ في وعيهِ ونبضه: ما الكويتُ؟، (إنَّها الخزُّ الموشى بالذهب). لكَ أنْ تتخيَّلَ ثراءَ الصورةِ الشعريَّةِ الذي يثمِّنهُ التشبيه البليغُ في هذه الجملةِ الافتتاحيَّةِ الارتكازية، وهو يبرعُ في تشكيلِ معادلٍ موضوعي لحالتهِ الوجدانية: الكويتُ هي الخزُّ المطرَّز بالذَّهب.

ثمَّ تتوالى الأيقوناتُ اللغويَّة مكوِّنةُ مجموعةً مِنَ الصورِ الشعريَّةِ التي تؤججُ الوجدانَ وتلهبُ الحماسةَ الوطنيَّةَ الصادقة، عبر خمسةِ مقاطعَ ترتكزُ عليها القصيدةُ كلّها تسبحُ في فلكِ بحر»الرَّمَلِ فاعلاتُن فاعلاتن فاعلن«باستثناءِ ما اقتضته الضرورة الشعريَّةُ من كسرِ بسيطٍ،و تصريفٍ للمنوعِ من الصرَّفِ في البيت السادس:«إنَّكِ اليومَ كمرجٍ أخضرِ»؛حيث تحتَّمَ على الشاعرِ أنْ يطوِّعَ نحو العربيَّةِ لهذا العرسِ والجلالِ من الوطنيَّةِ والفخار،كما انقادتْ لهُ لغتُه ليحلِّقَ بها عالياً في فضاءِ الوطنيَّةِ.

وباستقراءٍ بسيطٍ لحقولِ القصيدةِ اللغويَّةِ نجدها وقدْ تسامتْ جُلُّها شامخةً لتطاولَ عنانَ السماءِ، تيهاً وفخراً واعتزازاً بالانتماءِ لهذهِ الأرضِ الطيبةِ الأبيَّة، فنجد الشاعرَ وقد احتشدَ قاموسُه الشعري بمفرداتِ السمو والشموخ والجلال والبهاء. وأولى هذه الحقول حقل: (السمو والرفعة):( تاج- بناها- ارتقت- المجد- هامات- السحب- نسب- تساميت- لامستِ- تخطيتِ- الشهب- الأسمى- سما- جلَّ- سيف قنا-عرينا- شامخاً- صّباح» الشيخ صُباح حفظه الله ورعاه-أمير- حَكَم).

الحقل الثاني حقل الجمال والبهاء:( الخز- الموشى- الذهب عروس- ضياء- البهاء- حسناً- عَجب- يزهو- مرج- أخضر) الحقل الثالث حقل الاحتواء والمنعةِ والعطاء:(القوم - أجدادنا- كويتنا- بيت- مأوى- نسب- أعطى- وهب- غيث- البحر- انسكب- أمير- حكم) وتتعانقُ الصورةُ الشعريّةُ مع المفردةِ اللغويَّةِ لتشكيلِ هذا الصرح الشامخ من الوطنيةِ، فتحتشد الصورةُ الشعريَّةُ لتزفَ القصيدةَ عروساً موشاةً بحلي التجسيد وروعةِ التصوير فتستغرقَنا الحالةُ في مشهدٍ تمثيلي مهيبٍ، يحيلُ الواقعَ إلى لوحةٍ فنيَّةٍ ممتلئةٍ بالمشاهدِ الجميلةِ والمشاعر النبيلةِ الفيَّاضةِ، فيصولُ الشَّطي في غمارِ البلاغةِ العربيةِ منطلقاً من التشبيه البليغِ في البيتِ الأوَّلِ (إنَّها الخزُ الموشى بالذهب) و(عروسُ البحرِ بل تاجُ العربِ). إنَّهُ يبرعُ في التطوافِ بنا بين السماءِ والأرضِ، فيطيرُ بنا في البيت الأولِ على جناحِ التشبيهِ البليغِ لعنانِ الخيالِ المُبهجِ، ثمَّ يعمِّقُ فينا اليقينَ بالعزِ والفخارِ ورسوخِ الكويتِ وشموخِهَا من خلالِ الجملةِ الخبريَّةِ المؤكَّدةِ بـحرفِ التحقيق«قد» (قدْ بناها القومُ مِن أجدادِنَا)، لاحظ الرسوخَ والتاريخَ والجذور القويَّةَ التي تضربُ بالوطنيَّةِ بين أبناء الكويتِ في عمقِ التاريخ؛ حيثُ تستغرقُ كلُّ موتيفاتِ الجملةِ الخبريَّةِ في بنيةِ التأكيد (حرف التحقيق والتأكيد «قد»متبوعاً بالفعل الماضي الثابت الراسخ المُحقَّق، ثمَّ نسبةِ الفعل إلى الذات، إلى القوم/ المجموع لا الفرد، ثمَّ حرف الجر ليربط السابق باللاحق/ القوم من أجدادنا). لاحظ أنَّ بنيةِ الجملةِ وكأنَّها رحمٌ بشري وقد تخصَّبتْ فيهِ جيناتُ الوطنيَّةُ والانتماء.

في المقطع الأولُ يراوحُ الشاعرُ بنا بينَ قطبينِ متباعدينِ ليشكلَ من ثنائيتهما حالةً شعوريةً وواقعية مستغرقة في الوطنية والاعتزاز بالانتماء لوطنه الكويت، يعلو بنا ليطاولَ عنانَ السماء، ثمَّ لا يلبثُ في البيت التالي أن يردَّنَا للأرضِ لنرويَ ظمأنا من بهائِها:

إنَّها الخز الموشى بالذهب

وعروسُ البحرِ بلْ تاجُ العرب

قدْ بناها القومُ من أجدادِنا

فارتَقَتْ بالمجدِ هاماتِ السحب

إنَّها ليست ْكويتنا وكفى

إنَّها بيتٌ ومأوى ونَسَب

يا لروعةِ هذه الحالةِ الشعوريةِ التي تتوهجُ في كفِّ الصورةِ الشعريةِ اللاهثةِ من فرطِ الحركيَّةِ بينَ الأعلى والأدنى: السماءِ والأرض، وبين الواقعي والخيالي،وبينَ الماضي والحاضر!

ثمَّ يأتي المقطعُ الثاني ليرتمي الشاعرُ في أحضانِ الوطنِ من خلالِ حميميَّةِ أسلوبِ النداء الدالِ على القرب والرغبة في الاحتواءِ ودفءِ الجدرانِ ليخرجَ الوطنِ من أطلسِ الخرائطِ الصمَّاءِ إلى روحِ الأمومةِ الدافئةِ النابضةِ بالحياةِ والخصب والنماء.

وهكذا تستمرُ القصيدةُ عبرَ أجواء التصويرِ الرحبة والاكتناز اللغوي الموشَّى بالحبِّ والاعتزاز والفخار، المطرَّزِ بحلي الانتماء والوفاءِ للوطن الكويت والمجالُ لا يتسعُ لحصرِ كلّ الأيقوناتِ اللغويَّةِ، بيدَ أنَّه لم تغادر مفردة من مفردات ِالقصيدةِ أرضَ الوطنِ الكويتِ المكتنزةِ بحبِّ أبنائِها لها وولائهم لكلّ ِحبِّةِ رملٍ فيها ولقائدِ مسيرتها ورمزِ عزِّها وشموخِها الشيخ «صباح الأحمد الجابر الصُّباح)، حيثُ قوّمَ الشاعرُ بناءَ قصيدتِه بهذا الرمزِ الشامخ في البيت العاشر:«يا صَباحاً جاء يزهو بصُباح مثلما الأجفانُ تزهو بالهُدبِ»؛ حيثُ يبرعُ الشاعرُ في رسم صورةٍ ساطعةٍ نديَّةٍ لأمير البلادِ ورمزِ عزِّها وشموخِها، حينَ جاءَ صباحُ الحريَّة والعزِ والرخاء مفتخراً بأميرِ البلاد«الشيخ صُباح» كزهو الأجفان بالهُدب التي تقيها وتحميها وتصونها.

كانَ حقَّاً أنْ تغرِّدَ القصيدةُ في سماءِ الشعرِ على إيقاعِ العاطفةِ الوطنية والحبِّ الصادق للكويتِ،عروساً تستحقُ ما قلدها به يوسف الشطي من حلي ووشاها بروعةِ التصوير وجمال اللغةِ وثرائِها لتكونَ القصيدةُ درَّةً تتلألأُ في سماءِ الكويتِ في احتفالاتها بالعيدِ الوطني، ولترددها قلوبُ الكويتيينَ وقلوبُ المحبينَ لهذه الأرضِ الطيبةِ المعطاءةِ، ترقصُ على إيقاعها أرواحُ المحبينَ لها قبل أنْ تصدحَ بها الحناجرُ الوفيَّةُ في أجوائها الوطنية.

* دكتوراه في النقد والأدب العربي الحديث
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي