No Script

مثقفون بلا حدود

الرباط والمرابطة.. تغيرات دلالية (3 من 3)

No Image
تصغير
تكبير

تعرضنا في مقالنا الأول لـ (الرباط )، وخلصنا إلى أنه قد يكون اسما لمكان، وقد يكون ملازمة الشيء، وهو ما يراه الباحث عبدالله إبراهيم، حيث قال: «الرباط: المواظبة على الأمر» أ.هـ. ومنه قوله تعالى: «يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون» آل عمران: 200. جاء في تفسيرها: «اصبروا على دينكم وصابروا عدوكم ورابطوا: أي: أقيموا على جهاده في الحرب، وقيل معناه: حافظوا وقيل: واظبوا على مواقيت الصلاة». عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» إن إسباغ الوضوء على المكاره يروض النفس ويربيها على الصبر والتحمل في معترك الحياة اليومية، كما أن كثرة الخطى للمساجد هي رياضة دينية وبدنية، وتعلق بحب الله ورسوله والزهد بالدنيا وزينتها، وانتظار الصلاة بعد الصلاة إنما هو مراجعة النفس وتصفيتها بين لحظة وأخرى، وتنقيتها من الشوائب النفسية التي تعلق بها، كما أن الحرص على المسجد هو وقاية تكبح جماح النفس الأمارة بالسوء، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (فذالكم الرباط) أي: أن المواظبة على الطهارة والصلاة كالجهاد في سبيل الله. ويكون (الرباط) مصدر (رابطت) أي: لازمت. أي أن هذه الخلال تربط صاحبها عن المعاصي وتكفه عن المحارم.
هذا في ما يخص (الرباط) أما (المرابطة)؛ فمهما يكن من قول فإن (المرابطة) هي صفة تطلق على كل من توافرت فيه شروط المعنى الاصطلاحي لكلمة (رباط)، ولئن كان مصطلحا (الرباط) و (المرابطة) ولدا (المرابطين)، وتباينت روايات المؤرخين حول أصولهم ونشأتهم، هل هم (عرب حمي ) أم هم (الأمازيغ)؟ فما يهمنا هنا أن جميع المصادر والمراجع أثبتت حسن إسلامهم، بل ودفاعهم عن بيضة الإسلام، ودفعهم الغالي والنفيس من أجل إعلاء كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، كما أن (المرابطة) في مفهومي الخاص لا شأن لها بالأصل العربي أو غير العربي، إنما كل من توفرت فيه مقومات (المرابطة) التي نلمسها في هذا المقال يطلق عليه (مرابط). و(المرابطة) لا تنتهي بزمن (المرابطين) فـ(المرابطة) قائمة حتى قيام الساعة، وهي قد دخلت ضمن العبادة لله وهذا ما بيناه في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
وبهذا أرى أن (المرابط) هو الرجل الصالح، و(المرابطة) هي المرأة الصالحة، ونعني بالصلاح هنا كل من فوض أمره إلى الله تعالى صابرا محتسبا وعمل بجد وإخلاص وأمانة ورضي بقضاء الله وآمن بقدره، و(المرابط) هو الزاهد غير المفتون بمناصب الدنيا ولا بملك أو جاه أو سلطة، حتى وإن كان على رأس ذلك كله فـ(المرابط) هو من يملك القدرة على تسيير أمور العباد بحكمة، والظهور بالمنظر اللائق ليكون هذا المرابط على حمل الأمانة قدوة حسنة يحتذى به في حكمته وعقله الرشيد ورأيه السديد، وأيضاً في نظافته وحسن ملبسه ووقاره وورعه وتقواه.
إن كل من يغلب المصلحة العامة على مصلحته الخاصة، ويتغلب على هوى النفس هو من يستحق أن يطلق عليه (مرابط)، فإن أكبر جهاد هو جهاد النفس؛ فمتى ما استطاع المرء أن ينتصر على أهواء نفسه استحق هذا اللقب العظيم، ومتى ما قدم نفسه فداء وتضحية لرفع كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولوطنه وعرضه، كان بذلك مرابطاً مجاهداً بطلاً شريفاً).
- المصدر: كتابنا ( الرباط والمرابطة ) 2011، دار الجائزة للنشر.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
fahd61rashed@hotmail.com

الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي