الفارابي وسيف الدولة

ارتبط اسم سيف الدولة بالشاعر المتنبي، الذي قدم له الشهرة إلى يومنا هذا، وسيستمر مع استمرار انتشار الأدب العربي، إلا أن هناك أسماء أخرى استطاعت أن تلفت انتباه سيف الدولة، وفي مقدمهم محمد بن أوزلغ بن طرخان الفارابي، الذي قدم إلى سيف الدولة بعد أن نال قسطه من العلم في بغداد، وقد بث الدهشة عنده إضافة إلى جلسائه الذين لم يستطع أحد منهم مجاراته في علمه، فهو يجيد لغات عدة منها العربية التي تعلمها في صغره، لكنه أجادها في بغداد، ثم العلوم التي منحته ألقاً كبيراً بين الحاضرين، الذين كانوا يستمعون ويستمتعون ويسجلون ما يذكر من سحر العلوم، كما أنه كان أفضل من يتحدث عن الفلسفة والموسيقى، فمثلما أبهرهم بعلمه أبهرهم بعزفه الموسيقى، التي كانت عنصراً رئيساً في مجلس سيف الدولة.
ورغم أن الفارابي من أسرة ثرية إلا أنه كان زاهداً في الدنيا وملذاتها، فتفرغ لطلب العلم وللإبداعات العلمية التي خلدت اسمه. ولم تكن هناك عنصرية يشعر بها الفارابي كونه أعجمياً في أرض عربية، فهو وإن كان والده فارسياً ووالدته تركية إلا أنه وجد في روح الإسلام التعايش الرائع، الذي دفعه إلى الإبداع في بيئة علمية مثالية، خصوصاً بعد أن تتلمذ على العلماء ببغداد اضافة الى تجويد لغته العربية حيث كان يجيد القراءة والكتابة لكنه كان ضعيفا في النحو فتتلمذ على يد أحد علماء بغداد، ليجيد اللغة العربية مثل أهلها، ثم توالت إبداعاته في الفلسفة والموسيقى.
وضمت كتاباته رؤيته الموسيقية، مؤكدا أنها ثلاثة أنواع، فهي إما لحن يكسب النفس لذة ومتعة وإما موسيقى خيالية تطير في جنح الخيال وإما موسيقى انفعالية عنيفة تؤثر على النفس البشرية.

ومن وجهة نظري الشخصية - ولست متخصصاً - أرى أن أهم ميزة في الفارابي أنه جمع بين النظرية والتطبيق في الموسيقى العربية، فقد تجد عازفاً لكنه ليس عالماً في الموسيقى وقد تجد العكس.
لا يمكن أن نغض النظر عن مشاركته الفاعلة في الفلسفة وجرأته في تقديم الرؤية الإسلامية أمام النظريات العريقة خصوصاً الفلسفة اليونانية، فكان مبدعاً وهو يشرح للقارئ العربي فكر أفلاطون وأرسطو، والنظرية الفلسفية اليونانية والنظرة الإسلامية، بكل ثقة وقد تأثر ابن سينا كثيرا بالفارابي، بل إنه لم يفهم أرسطو إلا من خلال شروحات الفارابي، الذي قدم مؤلفات عدة أهمها كتاب «آراء اهل المدينة الفاضلة ومضاداتها».
وله نظريات عدة منها أن الحقيقة لا تخترع بل يتم الكشف عنها، وقضى عمره يؤلف كتبه في حدائق دمشق التي توفي بها وهو في الثمانين من عمره.