No Script

«سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق»

الرياح والريح... بين الإعجاز الإلهي والعجز العقلي

تصغير
تكبير
| إعداد عبدالله متولي |

أمرنا الله عز وجل بالتفكر في آياته الكونية التي يجريها - سبحانه وتعالى - بقدرته لتحقيق مراده في كونه، ومن آيات الله تعالى في الكون «الريح والرياح» وهي من الايات - وجميعها كذلك - التي تتجلى فيها طلاقة القدرة الالهية، ويقف الانسان مهما اوتى من علم، امامها مشدوها مذهولا عاجزا عن الوصول الى حقيقة هذه الآيات من حيث طبيعتها وتكوينها وقوتها وآثارها وتوقيت حدوثها ومكان حدوثها، وكلها امور تترك اسئلة واستفسارات لدى الانسان تجعله دائما في حالة تفكر وتدبر للوصول الى حقيقة هذه الآيات ومقصودها وهذه هي قمة الاعجاز في الخلق والكون، وقمة العجز العقلي امام هذا الاعجاز لانه سيظل الى ان تقوم الساعة يسمع قول الله تعالى «سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق...» (فصلت: 35).

وكلما بحث واجتهد وفكر ووصل الى بعض الحقائق ويظن انه قد وصل الى مبتغاه ينتبه على قول الله تعالى «وما أوتيم من العلم إلا قليلا» (الاسراء 85).

وهذه الاية الكريمة ستظل تدفع العقل البشري الى البحث والنظر والاجتهاد للوصول الى حقيقة ما يحدث في الكون العظيم، كما انها ستظل واقفة موقف التحدي الأبدي الى ان تقوم الساعة لتؤكد للانسان انه مهما بلغ من العلم وحقق من اكتشافات، فإنه ما جمع ولا وعى إلا قليلا من علم الله الذي لا يعزب عنه مثال ذرة في الارض ولا في السماء.

واستكمالا لما بدأناه في الاسبوع الماضي عندما تحدثنا عن فوائد الغبار او الرياح المحملة بالاتربة، فقد خصصنا حلقة اليوم للحديث عن (الرياح والريح في القرآن الكريم والفرق بينهما)، وما يحويه هذا الموضوع من حقائق ومعجزات قد يغفل عنها البعض، او يختلط عليه الامر، فلا يعلم ان القرآن الكريم يعبر بلفظة «رياح» عندما يريد الحديث عن المبشرات والرحمة ويعبر بلفظة «ريح» عندما يريد التعبير عن الهلاك والعذاب والدمار.

وقد اجتهد علماء اللغة وعلماء التفسير وعلماء السنة واهل الاختصاص في دراسة هذه القضية وخرجوا منها بحقــــائق كـــــثيرة مذهــــلة سنــــعرض لبعــــض مــــنها فتابع معنا.



ان الحديث عن الرياح والريح باعتبارها آيات ربانية طويل ومتفرع ويشتمل على حقائق كثيرة ودلائل متنوعة، ومن الذين كتبوا في هذا المجال بشكل مفصل ورائع الشيخ مهران ماهر عثمان، خطيب مسجد خالد بن الوليد بمدينة الخرطوم السودانية فقد كتب بحثا نراه مناسبا ومفيدا لعرضه في هذا السياق، وقد بدأ بحثه بالتأكيد على ان الرياح والريح من آيات الله مستندا الى قوله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) [البقرة: 164] .

قال السعدي رحمه الله في قوله تعالى :( وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ): «باردة وحارة، وجنوباً وشمالاً وشرقا ودبوراً وبين ذلك، وتارة تثير السحاب، وتارة تؤلف بينه، وتارة تلقحه، وتارة تدره، وتارة تمزقه وتزيل ضرره، وتارة تكون رحمة، وتارة ترسل بالعذاب» . فتصريفها تقلُّبها بين هذه الأمور .

 

فوائد الآية

لقد ذكر الله تعالى لنا شيئاً من فوائد هذه الآية الكونية، ومن ذلك : 

نقل السحاب إلى الأرض الميتة ..

قال تعالى :( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [الأعراف: 57] .

وقال :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ) [السجدة:27] .

ومن طرق سَوْقِ الماء: نقل الرياح للسحاب

وقال:( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الروم: 48-50].

 

تلقيح النبات

قال تعالى:( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) [الحجر: 22] .

تلقيح النبات بالعوامل الطبيعية يكون بواسطة الحشرات، والطيور، وبواسطة المياه، وبواسطة الريح، وهو ما يُسمَّى بالتلقيح الريحي .

والتلقيح الريحي ضروري في عملية الإخصاب، لا سيما للنباتات التي لا تنجذب إليها الحشرات، فتنقل الريح (حبيبات اللقاح)، من العناصر الذكورية في النبات إلى العناصر الأنثوية، فيتم الإخصاب بإذن الله .

 

تحريك السُّفن

قال تعالى:( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور) [الشورى: 32-33] .

حتى السفن التي تعمل بالمحركات والوقود، لابد من وجود الهواء حتى تتم عملية احتراق الوقود، ولا يمكن لهذه الأجهزة أن تعمل بكفاءة إلا بهواء التبريد، ومازالت هذه الأنواع من الفلك التي تجريها الرياح مسخرة للبشر، فتبقى منة الله في الآية باقية ما بقي الليل والنهار .

 • تضفي على النفوس فرحاً وسروراً

فالرياح من الآيات التي تدخل السرور على النفس، ويُستبشر بها، قال تعالى :( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ) [الفرقان: 48] .

وقال تعالى :(أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل: 63] .

وقال: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الروم: 46].

أوضح ابن الجوزي في زاد المسير عند تأويل هذه الآية أنّ هذه الجمل كلها تتعلق بالرياح ..

(وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) : فتفرح النفوس بالرياح ..

(وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ) : بالمطر الذي تحمله الرياح ..

(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) : والفلك تحركها الرياح ..

(وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) : بتجارة البحار التي تحرك الرياح بواخرها ..

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ): تشكرون الله على نعمة الرياح .

والريح اليوم تعدُّ مصدراً من مصادر الطاقة، فطواحين الهواء استمدت فكرتها من هذه الآية الربانية الكونية .

 

الريح والرياح

نجد في القرآن ريحاً، ورياحاً .. فما الفرق بينهما؟

الريح قد تكون رحمةً، كما في قوله تعالى :(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس: 22] ، وقد تكون عذاباً، كما في الآية :( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) [الذاريات:41] .

أما الرياح فلا تكون إلا خيراً ورحمةً .

ويدل لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ :«الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلَا تَسُبُّوهَا وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا» [2] .

 

أحكام تتعلق بالريح :

هناك بعض الأحكام المهمة التي تتعلق بالرياح، لابد للمسلم من أن يكون على إلمام بها:

أولاً :  إذا عصفت الريح سُنّ للمسلم أن يقول ما حدثت به عَائِشَةُ رضي الله عنها: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَصَفَتْ الرِّيحُ قَالَ:«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا، وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا، وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ»[3] .

وعَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ قَالَ:«اللَّهُمَّ لَقَحًا لا عَقِيمًا».

وإذا تعددت أذكار النبي صلى الله عليه وسلم في الموضع الواحد فليس من السنة في شيء أن يجمع الإنسان بينها في آنٍ واحد، وإنما يقول هذا تارة، وذاك تارة أخرى .

ثانياً: لا يجوز سب الريح؛ لحديث أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :«لَا تَسُبُّوا الرِّيحَ» .

 ثالثاً : كان نبينا صلى الله عليه وسلم إذا لاحت الريح في الأفق يُعرف ذلك في وجهه.

فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ يَوْمُ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ عُرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرَّ بِهِ وَذَهَبَ عَنْهُ ذَلِكَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ:« إِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِي».

ولعلّ ذلك قبل أن ينزل الله تعالى قوله :( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] .

وفي رواية عنها : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا رَأَى مَخِيلَةً فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ وَدَخَلَ وَخَرَجَ وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم :«مَا أَدْرِي لَعَلَّهُ كَمَا قَالَ قَوْمٌ :(فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ...)» .

 رابعاً : فهل يجوز التخلف عن صلاة الجماعة بسبب الريح الشديدة؟

الجواب : إذا اشتدت وعجَز الإنسان عن إتيان المسجد فلا واجب مع العجز .

قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16] ، وقال :( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَ) [البقرة:286] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :«وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .

 خامساً : إذا أراد المؤذن أن يرفع النداء وكانت الريح عاصفة فالسنة أن يجعل بدلاً عن الحيعلتين قوله :(صلوا في بيوتكم)؛ فعن ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ :»كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُنَادِي مُنَادِيهِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ، أَوْ اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ ذَاتِ الرِّيحِ: صَلُّوا فِي رِحَالكم».

 سادساً : وإذا اجتمع الناس في المسجد فاشتدت الريح فلهم أن يجمعوا بين الصلاتين، المغرب والعشاء، أو الظهر والعصر؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، بِالْمَدِينَةِ، فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ». فقيل لِابْنِ عَبَّاسٍ : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ قَالَ : «كَيْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» [11]. ففي الحديث دليل على الجمع إذا كان الحرج والعذر.

 سابعاً: ينهى عن التبوُّل عكس الريح، قال ابن قدامة رحمه الله :» وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الرِّيحَ ؛ لِئَلَّا تَرُدَّ عَلَيْهِ رَشَاشَ الْبَوْلِ، فَيُنَجِّسَهُ».

 الريح من جند الله ، يعز الله بها أولياءه، ويذل بها أعداءه ، فقد أكرم الله تعالى بها نبيين كريمين ..

- أكرم بها سليمانُ عليه السلام ، ذلك لأن الله سخر له الخيل، فلما شغلته تخلص منها، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فكان العوض من الله : الريح. قال تعالى :( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ) [ص: 30-36] ، أي: تطيعه حيث أراد. وقال تعالى:( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ) [الأنبياء: 81]، وقال :( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ِ) [سبأ: 12].

ونصر بها نبينا صلى الله عليه وسلم .. قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) [الأحزاب: 9]، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :«نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» [13] .

قال الحافظ في الفتح :» هِيَ الرِّيح الشَّرْقِيَّة ، وَالدَّبُور بِفَتْحِ أَوَّله وَتَخْفِيف الْمُوَحَّدَة الْمَضْمُومَة مُقَابِلهَا ، يُشِير صلى الله عليه وسلم إِلَى قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّة الْأَحْزَاب: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَ) ، وَرَوَى الشَّافِعِيّ بِإِسْنَاد فِيهِ اِنْقِطَاع أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « نُصِرْت بِالصَّبَا ، وَكَانَتْ عَذَابًا عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلنَا». وَقِيلَ إِنَّ الصَّبَا هِيَ الَّتِي حَمَلَتْ رِيح قَمِيص يُوسُف إِلَى يَعْقُوب قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ» [14] .

والريح عذاب يسلطه الله على من شاء من أعدائه ..

توعد بها الكافرين فقال :( أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ[15] * أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) [الملك: 16-18] . حاصباً «ريحا فيها حصباء تدمغكم» [16] .

وتوعد بها المعرضين الذين يعرفونه في الشدة دون الرَّخاء أن يُسلِّط عليهم الريح فيغرقهم بها، قال تعالى:(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ) [الإسراء: 67-69] .

قاصفاً: الريح الشديدة تقصف ما تأتي عليه .

وأهلك الله بها عاداً قوم هود عليه السلام .. قال تعالى:( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ) [الذاريات: 41]، عقيم لم تأت بخير، قال ابن الجوزي : «وهي التي لا خَير فيها ولا بَرَكة ، لا تُلْقِح شجراً ولا تَحْمِل مطراً ، وإنما هي للإهلاك» [17] . وقال: ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ) [فصلت :15-16] ، والصرصر: الشديدة العاتية،  ويوم نحس: شديد الشقاء . وقال:( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ) [القمر:19-20]. 

قال السعدي رحمه الله : «كأن جثثهم بعد هلاكهم مثل جذوع النخل الخاوي الذي أصابته الريح فسقط على الأرض، فما أهون الخلق على الله إذا عصوا أمره» [18]، وقال ابن كثير رحمه الله : «جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخر ميتًا على أم رأسه، فينشدخ رأسه وتبقى جثته هامدة كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا أغصان» [19].

وقال تعالى :( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ) [الأحقاف:24-25].

( إن بطش ربك لشديد) [البروج:12] .. ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ) [المدثر: 31] .

 



لمسة بيانية



• ما الفرق بين الريح والرياح في القرآن؟

- هذا السؤال أجاب عليه الدكتور فاضل السامرائي في لمسة بيانية رائعة بقوله:

الفرق بين ريح ورياح تكلم فيه بعض العلماء وقالوا ان الرياح تكون للخير وريح تكون للشر. لكن التدقيق في الآيات جميعاً وعندما نستعرض نحن نستفيد مما جمعه محمد فؤاد عبدالباقي في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم نجد أن كلمة الرياح مرسومة بالألف لم ترد إلا في موضع واحد وهي للخير فعلاً (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) (الروم) هذه للخير. في جميع المصحف الرياح لم ترسم بالألف وإنما من غير ألف. كونها من غير ألف في 13 موضعاً أجمع القرّاء السبعة على قراءتها ريح. وفي 15 موضعاً رسمت الريح ولكنها فيها قراءة الرياح. عندما نعود للفظ نجد أن أصل الريح هو الهواء المتحرك وهو اسم جنس مثل كلمة ماء جنس وكما قالت العرب ماء ومياه وأمواه جمعت قالت ريح ورياح فهي تأتي للجمع.





الريح والفلك وملك سليمان



حيثما وردت لفظة الريح (المفردة) في القرآن الكريم، دلت على العذاب.

وحيثما وردت لفظة الرياح (مجموعة) في القرآن الكريم، دلت على الرحمة قال تعالى: «وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم» الذاريات 41

هذه اللفظة (الريح) أتت مفردة أي دالة على العذاب كما سبق.

وهذه (الريح) أرسلت على قوم عاد، ومعروف أن الله سبحانه عاقبهم بها، فهي تعقم ما مرت به، وهي لا تلقح ولا خير فيها.

وقال الله تعالى في آية أخرى: «وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين» الحجر 22

لفظة (الرياح) دلت في هذه الآية على الرحمة، فهي لواقح وليست عقيما أما في سورة يونس 22 قال تعالى: «هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها....».

في هذه الآية دلت لفظة (الريح) على الرحمة، والسبب في ذلك أن السفينة.

(الفلك) لا تسير إلا بريح واحدة، ولو اختلفت عليها الرياح لتصادمت وتقابلت.

وهو سبب الهلاك. فالمطلوب هنا ريح واحدة لا رياح لذلك اقتضى السياق.

لفظة (طيبة ) لدفع التوهم أن تكون ريحا عاصفة.

وفي سورة سبأ الآية 12 (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) عملت كلمة ريح مع سليمان عليه السلام، لكنها لم تُخصص لشيء فجاءت عامة قد تكون للخير أو للشر لأن الله سخّرها لسليمان يتصرف بها كيف يشاء.





حركة الرياح وقوانينها



ورد ذكر كلمة (رياح) في القرآن الكريم عشر مرات وذكر لفظة (ريح) أربع عشرة مرة، ولفظ (ريحًا) أربع مرات. وجاء ذكر الرياح مجموعة دائما مع الرحمة (مبشرات، حاملات، مرسلات، ناشرات، ذاريات، لواقح).

وإن كل مرة ذكر فيها الريح مفردة تكون مقترنة بالعذاب (عاصف، قاصف، عقيم، صرصر). إلا في سورة يونس في قوله تعالى: {جرين بهم بريح طيبة} (الآية 22)، وسورة يوسف في قوله تعالى:{ لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} (الآية 94).

نخلص من النقاش الجميل بالآتي:

أن ورود كلمة الرياح مع الجمع تعني أن الرياح بهذه الصفة المقرونة بها قد يحدث في نفس الوقت على أماكن أخرى من الكرة الأرضية مثل تصريف الرياح أو يرسل الرياح فهي كمرسلات هنا وهناك ناشرات في نصف الكرة الشمالي والجنوبي في نفس الوقت.

وقد ذكر القرآن الكريم أن هناك توزيعًا تامًّا ومحكمًا للرياح، وذلك في قوله تعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} سورة البقرة الآية 164، فهنا تصريف الرياح معطوف على كل من الآيات الكونية الكبيرة التي تخضع لنظام ثابت وبذلك يكون (تصريف الرياح) يعني المعنى الشامل التام لحركة الرياح وارتباطها بهذه الآيات، الليل والنهار والسحاب.

وفي سورة الجاثية: (واختلاف الليل والنهار وما أنزل من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون) آية 5.

وتبين هاتان الآيتان ما يلي:

1 - أن هناك توزيعًا تامًّا للرياح.

2 - أن هناك قوانين تحكم حركة الرياح.

وهذه الرياح لا يدركها الرجل العادي بسهولة، وفي الأزمنة الحديثة يعرفها الذين يتلقون تعليمًا خاصًّا، ولديهم إدراك أو تفكير متعمق. (د. أحمد عبدالله مكي - جامعة الملك عبدالعزيز) أما الإفراد فإنها تأتي بمواصفات خاصة كجسد واحد يؤدي غرضا محدودًا، فريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء تؤدي غرضاً بعينه، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو إن هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحا».
الأكثر قراءة
يومي
اسبوعي