| بقلم محمد هشام المغربي |
ان وصول هذا النوع الى الكويت -عبر قنوات عربية- كان بعد مرور عشر سنوات على انتاجه «رسميا» في أميركا. ففي عام 2003 بدأت محاولات لكتابة هذا النوع من النصوص، فكان ينظر اليه كمادة للتسلية أكثر من كونه أدبا.
التسمية أو الاصطلاح
تنوعت مسميات الأنواع السردية معتمدة على اختلاف مقادير عناصرها. وقد روعي في بادئ الأمر بعدد الكلمات وبالمدة التي يستغرقها العمل كي يقرأ. وتأتي القصة القصيرة جدا في ذروة هذا الاختزال السردي ولكن لماذا (جدا)؟
في البال: هل تتطابق هذه الكلمة والمفهوم الحقيقي لهذا النوع السردي؟
للاجابة عن هذا السؤال يجب بنا أن نفصّل القول في ماهية هذا النوع؟!
العناصر الأساسية
تجدر الاشارة بأن وضعنا للعناصر بالشكل الحدي، لا يعني ضرورة وجودها بقدر ما يطرح تصورا لقابيلة هذا النوع الادبي، فالغرض ليس القول بوجوب الحد او عدمه بل عرض لامكانية هذا النوع لاحتواء قدر معين.
1 - الزمان والمكان
ان الحديث عن هذين العنصرين يحيلنا بالضرورة للحديث عن المشهد في النص. وأحد تعريفات النقاد للمشهد بأنه «الحدث الذي يتم في مكان واحد في وقت واحد».
واذا كانت الرواية تتحمل مساحة زمنية ممتدة، فان القصة القصيرة جدا تحوي في عالمها المقدار نفسه ولكن عرضه لا يكون بالرحابة ذاتها بل يتسم بالسرعة القصوى، بحيث ينتقل الزمن بكلمة لا أكثر. وغالبا ما يلجأ الكاتب الى تثبيت الزمان لاقتناص مشهد ما، ولكن اذا ما اجبره السياق على التمهيد الزمني يقوم بتقديمه على عجالة وفي اختصار. وهو ما يعرف «بالقفز» في مدة زمن القص.
مثال:
«أصوات»
هل سمعت؟ حرك مؤشر المذياع، ينصت للأخبار:
- صرح ناطق رسمي باسم نهري دجلة والفرات أنهما عادا يبتسمان من جديد. (يوسف خليفة، أفكار عارية، صـ 42).
نعرف أن أشكال السرد تستوعب أكثر من مكان لأنها تحوي -على طول خطها السردي - مشاهد متعددة. ولكن القصة القصيرة جدا لا ترقى الى المشهد بقدر ما تنتقي منه لقطة وهذه اللقطة تستوجب ثبوتا في الحيز المكاني في لحظة الحل. فاذا حاول الكاتب أن يؤسس لانتقال مكان معين، يختصره قبيل ولوجه الى نقطة الحل.
مثال:
«ظلمة»
أغمضت قلبها عن كل الرجال، اختارته وحده، ذهبت الى بيته تائقة وحالمة بالنور، حين دخلت داهمتها ظلمة جديدة. (ليلى العثمان، قصص قصيرة جدا، صـ 32).
2 - الحكي (الحوار)
يتكون النص القصصي من جزئين: السرد والحكي. والقصة القصيرة جدا تختار أحدهما ولا تستوعب الاثنين معا. والحكي فرديا أو حوارا لا يكون شاملا بل يأتي كي يحقق القيمة ذاتها لمفهوم اللقطة المجتزأة من المشهد الا انه يكون مرتكزا على مقدمات دلالية رمزية موحية بحيث يكون الحكي -على قصره الشديد- وافيا.
أمثلة:
«غرور»
قال الديك للدجاجة:
- لولا أنني ديك لما جئت بالبيض.
قالت الدجاجة:
- لو لم أكن دجاجة لما كنت ديكا. (ليلى العثمان، قصص قصيرة جدا، صـ 36)
«بلا توقيت»
بلهجة من يخبر الدنيا بما فيها تناثرت كلماته العابثة:
- ما الحياة الا مسرح كبير ونحن نؤدي الأدوار.
رد الآخر متهكما:
- ليتني اعتذرت عن الدور. (هبة بوخمسين، في قعر أمنية، صـ 59).
«شهادة»
- هل سمعت؟ لقد استشهد الصحافي سعد الموجود في العراق، أتذكره؟
- أجل. هل قتله الكفرة الأمريـ...
- لقد قتله كتابة مقال ضد الارهاب. (يوسف خليفة، أفكار عارية، صـ 46).
3 - الشخصية
اذا صنفنا الشخصيات نامية ومسطحة فان القصة القصيرة جدا تحتفي بالشخصية المسطحة ولا تحتمل نموها. فهي تقدم -في اللقطة- وجها من هذه الشخصية التي في حقيقتها، أو في البعد التخيلي قد تتطور ولكنها في حيز القصة تعرض مسطحة ثابتة لا تنمو.
أمثلة:
«بلل»
بعد انتهاء ذلك الطابورِ الطويل...
تطرق بابه مجدداً... قابضة على كف صغيرها...
فقد نجح الكيّ في معالجة تبوله الليلي...
ولكن سريره لا زال يبتل...
اذ منذ ذلك اليوم لم يتوقف تساقط الدموع من عينيه! (أفراح الهندال، قصة بلل)
«صرخة»
- أنا انـسـان
صفعة...
- أنا انسـان
لكمة...
- أنا انسـان
ركلة بين الساقين...
- حيوان... أنا... حيواااااان. (يوسف خليفة، أفكار عارية، صـ 74).
أما اذا تحدثنا عن القدرة الاستيعابية لعدد الشخصيات فانها -أي القصة- تكتفي بشخصيتين كحد أعلى، على ان تكون احداهما أوضح من الثانية. فالقصة القصيرة جدا تقدم رسالتها بعد تفاعل الشخصيات من وجهة نظر واحدة او احادية لذالك قد تختفي الشخصية الثانية ويكتفى بالاشارة لوجودها الضمني في عالم القص.
أمثلة:
«كابوس»
أنضح عرقا.
يائسة محاولاتي للافلات من قيد يحزني بجذع شائك. تكبيل يطوق كلي باحكام. أراني من علو وأقطر اشفاقا ويأسا من افلاتي. تنفجر رئتي صراخا ولا أسمعني.
جزع نفسي يرغمني على الافاقة.
أنفاس وبلل، وأطرافه حول كلي احتضانا عرضيا. سكره يغتصب حاسة الشم عندي. (هبة بوخمسين، ذات سكرة، صـ 107).
«أكثر»
يقبل يدها...
لا تتركيني.
آسفة ولكني أريد أكثر.
تركته ينتحب...
غادرت المنزل الفخم... (يوسف خليفة، أفكار عارية، صـ 31).
4 - العنوان:
ان أكثر ما يميز هذا النوع السردي هو ان العنوان جزء مهم من النص، فهو ليس انعكاسا رمزيا له بقدر ما هو عامل فعال في تكوين النص. فبلا عنوان لا تكون هناك قصة قصيرة جدا ابدا. فالعنوان هو الشرط الوحيد الواجب في هذا النوع.
مثال:
«تغيير»
نظر بتهكم من نافذة مكتبه الى موظفين يحملون اللافتات احتجاجا على سياسة الشركة في التخلي عن ربع موظفيها.
وصلته قائمة بأسماء الموظفين المفصولين عبر جهاز الفاكس.
خرج الى الشارع يبحث عن لافتة كبيرة ليحملها. (يوسف خليفة، أفكار عارية، صـ 78).
وتجدر الاشارة الى شهرة بعض الأساليب المتعلقة بالعنوان مثل الأسلوب الصحافي في العنونة «Kicker» بحيث يكون العنوان مكملا للنص الذي يليه، مما يجعل القارئ يعود لقراءة العنوان مرة ثانية بعد ان يتم القصة.
* شاعر وكاتب كويتي
[email protected]