محمد ديبو / الجماهير وحريتها المفقودة

1 يناير 1970 06:32 ص
أكثر ما يثير الانتباه في ما يحصل نتيجة مجزرة غزة وتداعياتها حجم وسعة الغضب الشعبي، واتساع رقعة التضامن العربية، والعالمية التي قلّما نراها محتشدة أو مجتمعة للاعتصام، أو الاحتجاج على أوضاع أخرى في العالم العربي لا تقل هولاً عما يحصل في غزة.
ولكن من جهة أخرى، إن الأمر نفسه يدعو إلى الرثاء والتعجب إذا ما سألنا عن جدوى هذه التظاهرات والهتافات ونتيجتها، فليس هناك تحرّك شعبي طوال العالم العربي له هدف معين سوى الاحتجاج وإيصال الصوت، إذ يبدو الأمر وكأنه بيان شجب وتنديد ولكن بطريقة شعبية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجماهير وقادة الرأي في العالم العربي دائماً يعيّرون السلطات والقمم العربية بأنها تكتفي بالشجب والتنديد.
منذ نكبة فلسطين والجماهير العربية تنزل الشوارع وتتظاهر، وتتوالى المشاهد والمظاهرات مع كل مجزرة وحرب واعتداء من دون هدف معيّن أو نتيجة تذكر، ومن دون أن تستطيع تلك الجماهير في أي بلد عربي أن تجعل سلطة ما تتراجع عن قرارها أو تغيّر رأيها، أو تقيل ولو وزيراً!
في مقابل ذلك الكرم الجماهيري الغامر في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية، وهي قضية حق وتستلزم التضامن وحشد الدعم والتأييد، نلاحظ غياباً فاجعاً للجماهير عن قضايا أخرى ذات صلة بحياة المواطن المعيشية، أو بواقع البلد الداخلي من حقوق إنسان، وحريات عامة، ومجتمع مدني تضيق رقعته يوماً بعد آخر في العالم العربي، وكأن تلك الحرية الفائضة في التعامل مع القضية الفلسطينية تقابلها حرية شبه معدومة أو شحيحة في التعامل مع قضايا الداخل، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن هذا الازدواج والتناقض الفاضح، ما يجعلنا نحاول أن ندقق أكثر في طبيعة تلك التظاهرات العارمة، لندرسها في العمق ونحلل أسباب عدم قدرتها على الفعل وإحداث التغيير المنشود.
ما يمكن ملاحظته في هذا الأمر أن السلطات العربية بسماحها لنزول شعوبها إلى الشارع تحقق بشكل جزئي شيئاً من أهدافها المتمثلة في تخفيف الاحتقان الشعبي وتوجيهه في اتجاه آخر، فهي تقف في صف جماهيرها ظاهرياً، ليبدو الأمر وكأن مواقف السلطات متناغمة مع مواقف شعوبها، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحد المسموح به سلطوياً. إضافة إلى أن هذا الأمر يفرّغ مكبوتات الجماهير ويريحها، لأنه ينفّس احتقانها المتراكم، أي أن السلطات تستخدم المأساة الفلسطينية كمنفّس لاحتقان الشعوب خوفاً من وصول ذلك الاحتقان إلى نقطة لا يمكن ضبط الأمور بعدها.
إن محاولة فهم لماذا تبدو آليات فعل الجماهير ضعيفة، ولا تؤدي أي نتيجة عملية على أرض الواقع، تبدو معقدة ويتداخل فيها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، إذ إن الشائع هنا أن السلطات التي تحكم قبضتها على مجتمعاتها هي السبب الرئيس في ذلك، ولكن هذا جزء من المشكلة، لأن هناك الكثير مما لا يرى في هذا الأمر، منها ضعف ثقافة المجتمع المدنية، وانتشار الثقافة الطائفية، وضعف بنى وثقافة الأحزاب المعارضة والمؤيدة للسلطات معاً، إذ لم تستطع هذه الأحزاب حتى اللحظة بلورة بيان عمل، أو آليات فعل توصل إلى نتيجة ما في ما يتعلق على الأقل بفلسطين كقضية جامعة.
تبدو لدينا آليات تفعيل تحركات الجماهير ضعيفة جداً، بسبب عدم وجود ثقافة مدنية ومواطنية تؤمن بأهمية الفرد كسيد لنفسه، فالبنية الثقافية، كلها، الموجودة في غالبية الأحزاب العربية تحل الجماعة، والطليعة، والنخبة، والطبقة، كلها، محل الفرد، ليغدو القرار النهائي بيد هذه «الجماعات» على اختلاف مسمياتها حتى لو تعلّق الأمر بقرار يتعلق بأبسط الأشياء، وهنا نجد هذه الأحزاب غير قادرة على إدارة شؤونها إلا بطريقة رثة، فكيف ستكون قادرة على تفعيل تظاهرات جماهيرها؟
نستنتج من ذلك أن أحد أسباب عدم قدرة الجماهير على فعل شيء هو نتاج أزمة الأحزاب السياسية وآليات عملها في العالم العربي من دون أن ننسى النقابات بمختلف أشكالها الملحقة إما بالسلطة وإما بالأحزاب المكوّنة لها، وهي في كلتا الحالتين تفقد مسوّغات وجودها، لأن العمل النقابي يستلزم الحرية في القرار والتحرك. وهنا نرى أن السلطات العربية نتاج هذا الوعي المأزوم الذي يقلب المفاهيم رأساً على عقب، لأن الشعب العاجز عن المطالبة بحقوقه الذاتية والمدنية، والعاجز عن التظاهر ضد حكومته لتحقيق مكاسب اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، سيكون عاجزاً بالتأكيد عن تحقيق أي شيء يذكر لنصرة فلسطين وأهلها، لأن المواطنين الخائفين هم رعاع ومسجونون لا يمكنهم إعطاء الحرية للآخرين، ببساطة، لأنهم لا يعرفونها، وفاقد الشيء لا يعطيه!
ويبدو هذا الأمر نتاج الوعي المأزوم الذي ساد منذ نصف قرن في الوعي العربي من خلال شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة»، إذ كانت تغيّب القضايا الداخلية كلها، وتقمع باسم القضية الفلسطينية وشعارات التحرير، لنكتشف بعد نصف قرن أن فلسطين ضاعت، والداخل العربي ازداد تخلّفاً وبعداً عن العصر.
إذا أردنا فعلاً التقدم لا بد من قلب المفهوم السائد ليصبح كالتالي: ربح المعركة يبدأ من بناء الداخل العربي، وإعطاء الجماهير العربية حريتها الكاملة وحقها في محاسبة السلطات وسؤالها، كما لا بد من تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وإطلاق قوانين عصرية للأحزاب، لتغدو الجماهير قادرة على رفع أفعالها إلى ما يليق بمستوى الحدث، بدلاً من تلك الأصوات التي تصم الآذان وترهقها من دون أثر يذكر!
محمد ديبو
كاتب وباحث، وهذا المقال يُنشر بالتعاون مع مشروع «منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org