جسر جوي وفرق ميدانية ومبادرة استراتيجية... وصلوات «الله يحمي الكويت»

... هكذا كَفْكَفَتْ أيادي «قائد الإنسانية» دموعَ بيروت المفجوعة

1 يناير 1970 12:54 م

الشيخ صباح السالم وضعَ الحجر الأساس لإهراءاتٍ شكّلت درعاً لنصف بيروت

العنزي:

«الهلال الأحمر الكويتي» قامت بواجبٍ إنساني من شعبٍ إلى شعب... واللبنانيون المُتعَبون تعاملوا معنا كإخوة لهم

- سلّمنا المواد الغذائية والعينية والأجهزة الكهربائية يداً بيد ليَطْمَئن المتبرّعون إلى أن مساعداتهم تصل إلى مُحتاجيها

الأخت عقيقي:

«لستم وحدَكم» عبارة اختصرتْ كل شيء بعد وصول «الهلال الأحمر الكويتي» فمَنَحتْنا الاطمئنانَ والأملَ 

- أتوجه بالشكر إلى الكويت وسمو أميرها وبعثة الهلال الأحمر... كنا مدفونين تحت الردم فانتشلونا

لم تَخْرج «بيروتشيما» من تحت ركامها بعد، وصدى الزلزال الرهيب ما زال يتردّد في الزوايا والحكايا على وقع عمليات رفْع الأنقاض التي اعتراها التعب في البحث عن الأنفاس والأشلاء ومفقودين تَواروا مع نيترات الأمونيوم وخفاياها المترامية بين «سر» العنبر 12 في المرفأ و«لغز» سفينةٍ كأنها لقيطةٌ جاءت من أقاصي الأرض لتجعل من بيروت أشبه بـ«أرض محروقة».
قصص كثيرة ستروى عن الدماء والدموع التي روت رغماً عنها أرضَ المدينة المذبوحة ورماد الأحياء التي أُزهقت أرواحها وأنفاس ناسها ومبانيها الجميلة وكل شاردة وواردة فيها... قصصٌ كثيرة ستحكي عن فواجع تَسبّب بها انفجارٌ هيروشيمي، كان من بين الأضخم على الكوكب، فخطف أرواحَ نحو 200 إنسان وأصاب أجساد وأرواح نحو 6500 آخَرين غروب الرابع من أغسطس الجهنّمي.
ومن قلب الجحيم الذي حَفَرَ عميقاً في الأمكنة والوجدان، ثمة قصص أخرى بيضاء، ناصعة، جميلة ستخلّدها ذاكرة بيروت التي تعوّدت أن تُسامِح الشرَّ من دون أن تنسى وأن تُعْلي نسائم الخير وتكبّر مَن يقفون إلى جانبها على قاعدة «الصديق وقت الضيق»، فكيف هو الحال مع الكويت، الصَديق في السراء والضراء، والحاضرة دائماً في أيام الشدائد والرخاء، الكويت التي يتعاطى معها غالبية اللبنانيين على أنها «توأم الروح» في الأيام الحُلوة والمُرة وعلى الدوام.
لم يكن مفاجئاً أن تكون الكويت أول الواصلين إلى الأحياء الصريعة يوم انكشف اللهيب والغبار عن كوابيسَ وكوارثَ لا حدود لها في مناطق واسعة من أحياء بيروت ودساكرها... في الجميزة ومار مخايل والأشرفية والرميل والمدوّر والكرنتينا وأسواق بيروت.
جسرٌ جوي انطلق على عَجَلٍ لنقل «الهدايا» إلى الأشقاء اللبنانيين من معونات إغاثية، غذائية وطبية ولوازم أخرى... فِرَقُ الهلال الأحمر انتشرتْ على جناح السرعة على أرض الكارثة، في المناطق المدمّرة وبين بقاياها ووسط الناجين من ناسها.
وبين الجو والأرض جاءت المبادرةُ الأكثر تعبيراً عن عمق العلاقة الإستراتيجية بين الكويت ولبنان، تاريخاً وحاضراً. فسفير الكويت في لبنان عبدالعال القناعي سارع إلى الإعلان أن بلاده «ستعيد بناء الإهراءات في مرفأ بيروت لتظلّ عنواناً شامخاً للأخوّة ولكيفية إدارة العلاقات بين البلدين الشقيقين اللذين يحترم أحدهما الآخَر ويشعر الأخ بأخيه».
ولفت القناعي (عميد الديبلوماسيين العرب في بيروت) إلى أن «أنسب طريقة للبدء بالمساعدات المادية هي إعادة بناء الإهراءات التي توفّر المخزون الإستراتيجي من القمح للبنان الشقيق»، مذكّراً بأنها «بُنيت أساساً (بين 1968 و1970) بقرضٍ من الكويت، ولذلك رأينا الإعلان عن إعادة بنائها».
وللإهراءات وصومعاتها حكايةٌ لبنانية - كويتية من النوع الذي يجسّد إرثاً تاريخياً مشحوناً بالرمزيات الجميلة التي ترسّخت في الماضي وحَمَتْ بصلابتها بعض بيروت من انفجار المرفأ شبه «النووي». فمن يتجوّل في شوارع «زهرة الشرق» وحاراتِها ويتقصّى أحوالَها، يكتشف كأنها بيروتان، واحدة صريعة دمّرها الإعصارُ وحوّلها خراباً وأطلالاً وركاماً وحكايا لم تجفّ، وثانية هزّها البركانُ، ارتجفتْ، تَطايرتْ شرفاتٌ فيها، لكنها بدت كمَن ينجو بأعجوبة وبـ«أقلّ الخسائر» التي خلّفها الانفجارُ المُزَلْزِل.
في وسط بيروت وشَرْقها، مرّ الزلزالُ الرهيب... بيوتٌ تناثرتْ ومبانٍ صارتْ هياكلَ عظميةً، ومحالٌ تجارية لم يَعُدْ من محلٍّ لها، وشوارع ضاقتْ بالركام والردم، وطوفانٌ من الزجاج وأشلاءِ الأحلام اندثرتْ تحت الركام... هكذا هو الحال في أسواق بيروت والجميزة ومار مخايل، الكرنتينا، برج حمود والأشرفية والخندق الغميق وغيرها.
لم يكن المشهدُ المريعُ هو غرب العاصمة المفجوعة... شوارع وأحياء ومناطق شاحبة، خاوية ارتعدت في يوم الرعب الكبير في 4 أغسطس... لملمتْ خوفَها وبقايا الطمأنينة الضائعة وهرعت لنجدة شَرْقها النازف، «الضربة التي لا تقتل تقوي»، فحَمَلَ الناسُ ما تَيَسَّرَ من إرادةٍ ومكانس ومَعاول وأدواتِ ضخِّ الروحِ من جديد في بقايا المناطق الثكلى.
لماذا دُمِّرَتْ مناطق في الشرق وكانت مناطق الغرب أقلّ دماراً بفعل التفجير الهائل الذي جعل 2750 طناً من نيترات الأمونيوم أشبه
بـ «ميني» قنبلة نووية؟... مفارقةٌ أثارت انتباهَ المواطنين والخبراء على حد سواء قبل أن تقود «التحرياتُ» إلى استنتاجٍ واحد... إنّها صوامع الحبوب الخرسانية التي افتدتْ بعِنادها مناطقَ واسعةً من العاصمة أفْلتت من «بيروتشيما».
وفجأةً قفزتْ الكويت كالعادة إلى الصدارة في لبنان... أول الحكاية يعود إلى واحدٍ من الأيام المُشْرِقة في تاريخ لبنان، يوم كانت بلاد الأرز «رؤيويةً» وفيها دولةٌ ورجالٌ جعلوا من الوطن الصغير دُرّة الشرق بمؤازرةٍ من أحبّة من عالمه العربي، وفي مقدمتهم الكويت التي لها في سجلّه، قيادة وشعباً، صفحاتٌ مضيئة وناصعة.
... «في 16 سبتمبر 1968 وَضع الحجر الأساس فخامة الأستاذ رئيس الجمهورية شارل حلو بصحبة صاحب السمو أمير الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح».
خبرٌ وصورةٌ خرجا من خلْف الغبار، يرويان قصةَ صوامع المرفأ التي أخذت بصدْرها جانباً هائلاً من الانفجار وعصْفه، فأنقذت بعض بيروت وأهلها.
ووفق الوثائق في الذاكرة اللبنانية، أن بناء إهراءات الحبوب بدأ العام 1968 حين وضع الرئيس الحلو وسمو الأمير الراحل الحجرَ الأساس في 16 سبتمبر من ذاك العام، وكان لحضور الشيخ صباح السالم الصباح «دلالاتٍ خاصة».
مدير إهراءات مرفأ بيروت أسعد الحداد أبلغ إلى صحيفة «النهار» اللبنانية «أن عملية بناء الصوامع التي أنجزت العام 1970 كانت بفضل قرضٍ حصلت عليه الدولة اللبنانية من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية لتمويل مشروع صوامع الغلال في مرفأ بيروت.
وبعدما تم توقيع اتفاقية القرض في الكويت في 7-8-1968، أُنجر بناء الصوامع في عام ونصف العام، واستمرّت صامدة منذ نصف القرن،
وها هي ما زالت واقفة كـ«القلعة» رغم ما أصابها من تهشيمٍ جراء التفجير الزلزالي الذي ضرب المرفأ وأَجْهَزَ على مساحاتٍ واسعة منه، كما دمّر مناطق في العاصمة المجروحة ولكنه لم يقتلع الإهراءات التي بدت وكأنها «دِرْعٌ أسطوري».
لم تكن تلك الصوامع التي بنيت بتمويل كويتي مجرد إنجاز من النوع العادي، كانت إنجازاً شامخاً. فالبناء النهائي تضمّن 104 صوامع بسعة إجمالية تصل إلى 125 ألف طن من الحبوب، ما جعله ذا بُعد إستراتيجي في ملاقاة المستقبل.
ومع الانفجار الهيروشيمي في 4 أغسطس، حملتْ لهفةُ الكويت على لبنان اسماً آخر ووجوهاً مُحِبّة معطاءة عنوانها بعثة الهلال الأحمر الكويتي برئاسة الدكتور مساعد العنزي.
هم موجودون في لبنان منذ العام 2006 يتعاونون مع سفارة دولة الكويت في لبنان ومع مؤسسة الصليب الأحمر اللبناني، ولذا ما إن انقشع غبار تسونامي الدمار حتى كانوا على الأرض بين الناس المنكوبين الموجوعين. لم يخافوا، لم يتردّدوا بل عرفوا أن حضورَهم الفاعل بين الناس هو شعاعُ ضوءٍ في عتمة الألم والخوف.
بسرعةٍ جالوا على الأماكن المتضرّرة، عرفوا الاحتياجات الأكثر إلحاحاً وبدأت عملياتُ الإغاثة. كانوا الأكثر حضورا ميدانياً، وبسواعِدهم حملوا المعونات الغذائية الى المتضرّرين من أهل الأشرفية وغيرها، وفي شوارع بيروت وقفوا لتوزيع الكمّامات على الناس للوقاية من فيروس كورونا المشؤوم والحدّ من انتشاره.
وسط الناس كانوا، وبين الردم عملوا وكأنهم من أهل البلد، لا بل أكثر. وفي ظلّ ضياع البعض وتَشَتُّته في تنظيم تسليم المساعدات، كانوا بأنفسهم يُشْرِفون مع الصليب الأحمر اللبناني على إيصال المساعدات الغذائية والأجهزة الكهربائية - التي تكسّرت مع البيوت - الى الأُسَر المحتاجة، والمعونات الطبية الى المستشفيات المتضررة.
لم يكن سهلاً على «الراي» أن تتحدّث مع الدكتور العنزي لتسأله عن دور الهلال الأحمر الكويتي في محنة بيروت، فالوقتُ للعمل لا للكلام، وهو يتنقّل بلا كللٍ ولا مللٍ بين أحياء العاصمة ومستشفياتها وبين البقاع وأهله ولاجئيه، ذلك أن لبنان كله بحاجة للمساعدة كما الإخوة السوريين فيه الذين يعيشون ظروفاً إنسانيةً وحياتيةً صعبةً تستدْعي تدخّلاً دائماً.
وحين استطعْنا أخيراً لقاء العنزي كان مُنْهَكاً بعد يومٍ طويل في منطقة عرسال البقاعية الحدودية مع سورية يوزّع مع فريق الهلال الأحمر المساعدات الغذائية والطبية على مخيمات اللاجئين السوريين هناك، قبل أن يعود الى بيروت لينسّق عملَ الغدِ وإكمال الجولات على المستشفيات المتضرّرة.
نقلنا إليه ما سمعناه من الناس في الجميزة والأشرفية عن شكرٍ لا تكفي الكلمات للتعبير عنه من أهل بيروت لدولة الكويت ولا سيما بعثة الهلال الأحمر لِما رأوه ولمسوه من إنسانيةٍ وتَعاضُدٍ واندفاعةٍ للمساعدة من هذا الفريق. لكن د. العنزي أجابنا: «لم نقدّم مساعدات ولم نتطلّع إلى الشكر، نحن قمنا بواجبٍ إنساني من شعبٍ الى شعب. كان هدفُنا تخفيف المعاناة عن الناس، فلبنان الذي يمرّ بأزمة اقتصادية وإنسانية وصحية بات مُتْعَباً وأهلُه مُنْهَكين، خائفين، فكان حري بنا الوقوف إلى جانبهم. أما الشُكر، فللمتبرعين من مواطنين ومقيمين تحت مظلة سمو الأمير الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح. نحن في لبنان منذ 2006، لكن بعد الانفجار بات وجودُنا على الأرض أكثر إلحاحاً. هنا شعرْنا كأننا من أبناء هذا الوطن، والناس لم يتعاملوا معنا كجمعيةٍ تمنحهم المساعدات بل كأبناء وإخوة لهم. استقبالُهم لنا كان رائعاً بكل معنى الكلمة حتى أن العديد من المطاعم كان يرفض أن ندفع ثمن طعامنا، وقد ارتحنا جداً لهذا التعامل الأخوي وتَرَكَ في نفوسنا انطباعاً لا يوصف يصعب أن ننساه».
لماذا نزلتم بأنفسكم الى الشوارع لإيصال المساعدات؟ نسأل العنزي، فيجيب: «لقد أردْنا عبر متطوّعينا أن نسلّم المواد الغذائية والعينية والأجهزة الكهربائية يداً بيد ليَطْمَئن المتبرّعون الى أن مساعداتهم تصل الى مُحتاجيها. جُلْنا على المستشفيات لنَطلع بأم العين على احتياجاتها، وقدّمنا المعدات والأجهزة الطبية للعديد منها في مختلف مناطق بيروت، مثل مستشفيات الكرنتينا والوردية والجعيتاوي، كما قدّمنا معدات لمشروع غسْل الكلى في عرسال. وتكفّلنا بترميم ثلاثة أقسام في مستشفى الوردية في منطقة الجميزة. نزلنا إلى الأرض ووقفْنا في الشوارع للمساهمة في نشْر الوعي الصحي وتزويد الجمهور بالكمّامات والمعقّمات. لكن عَمَلَنا لم يقتصر على بيروت، فقد عَمِلْنا في الحقول مع المزارعين، نساعدهم في جني المحصول ضمن مشروع المنتجات الزراعية، ونعمل على توزيع المحاصيل الزراعية على اللاجئين. هكذا حيثما نرى حاجةً الى وجودنا، نكون لنقوم بمشاريع ومساعدات تساهم في التخفيف من معاناة الناس أينما كانوا. وكما قال الدكتور هلال الساير رئيس مجلس إدارة الهلال الأحمر فإن الكويت وشعبها تقف إلى جانب الشعب اللبناني في هذه الظروف الصعبة ومستعدّة لكل دعمٍ إنساني وإغاثي للأشقاء في لبنان».
شعلة أمل
في نكبة الوردية

هم شعاعُ ضوءٍ أشرق على مستشفى الوردية المدمّر فانتشل القائمين عليه من بؤرة الظلمة واليأس التي كانوا يتخبّطون فيها.
الأخت نيقولا عقيقي، رئيسة المستشفى، لم تصدّق ما عاشتْه في تلك الليلة المشؤومة. كنّ 9 راهبات في الطابق التاسع حين دوّى الانفجارُ الرهيبُ، وغالبيتهن أُصِبْن بجروحٍ وكسورٍ، وكانت أصوات الألم والاستغاثة تتناهى الى مسامعهنّ قويةً. هرعن الى الطوابق السفلى، في السابع كانت ممرّضةُ مُلْقاةً على الأرض، الممرّضات كلهن مصابات، الدمار هائل، الأسقف على الأرض والنوافذ والأبواب انتُزعت من أماكنها والزجاجُ مُتَناثِرٌ في كل مكان.
«العناية الإلهية وحدها»، تخبرنا الأخت نيقولا «حمتْ المرضى، فزجاج السيكوريت الخاص انهار كالشبكة ولم يُحْدِث بين المرضى إلا جروحاً سطحية. بناء المستشفى القوي الذي صُمّم ليتحمّل الزلازل صَمَدَ في وجه الانفجار، لكن المعدات الطبية والأجهزة على اختلافها لم تصمد».
كان الذعر حينها سيّد الموقف، وكذلك المواقف البطولية. إحدى الممرضات حملتْ طفلةً لم تتجاوز الساعة من العمر وخرجت تَجْري بها إلى الشارع، توقفت عند صيدلية جلبتْ لها قنينة حليب حتى ترضعها إلى أن أتى الوالد واصطحب زوجته والطفلة الرضيعة بعيداً عن المستشفى.
الضربةُ التي تلقاها المستشفى لم تمنع المصابين والجرحى من الأحياء المجاورة من التهافت إليه، فاضطر الفريق الطبي والتمريضي لجمْع ما تبقى من ضمادات وأدوية في طابقٍ تحت الأرض كما في باحة الطوارئ لتضميد الجراح البسيطة. أحد المصابين احتاج الى إدخال أنبوب تنفّس في رئتيه، تقول رئيسة المستشفى «فقمنا بذلك وخرجْنا الى الطريق وأوقفْنا سيارةَ إسعافٍ بالقوة لنقْله الى مستشفى آخَر غير مصاب. لكن بعد ذلك لم يعد بإمكاننا تقديم أي مساعدة للناس كون كل معدّاتنا قد تضرّرت». وفي اليوم الثالث وصلوا (الهلال الأحمر الكويتي)، مرسَلين من د. الساير وبتوجيهات من سمو الأمير «قائد الإنسانية» فكانوا «كالضوء وسط العتمة»، تقول الأخت عقيقي. وتضيف: «لم تكن زيارتهم للمستشفى زيارةً رسميةً جافة بل زيارة إنسانية ملأى بالعاطفة الصادقة. حين رأوا ما حلّ بالمستشفى، رفعوا تقريراً الى سمو الأمير وبعدها عادوا ليبلغونا بأنهم يتبنون ترميم ثلاثة أقسام في المستشفى، وهي قسم الولادة وحديثي الولادة، قسم العظام والجراحة، وقسم الطب الداخلي، وهي الأقسام التي تشكل عَصَب المستشفى».
«جمدتُ في مكاني»، تروي الأخت الرئيسة، «لم أعرف أي كلمات شكر يمكن أن تفي هذه المبادرة حقَّها، وكان موظفٌ مسؤولٌ يقف بالقرب مني فسأل رئيس البعثة د. العنزي إن كان بإمكانه تقبيله، وهو ما فعله ليعبّر عن عميق الامتنان والعاطفة نحو هؤلاء الأشخاص الذين وقفوا الى جانبنا في عزّ خوفنا ومِحْنَتِنا. حينها شعرتُ بأنني لم أعد وحدي وأن قلباً عطوفاً قد غَمَرَنا وبَدَّدَ خوفنا وأن وجودَهم الى جانبنا ليس مجرّد كلام بل التزام حقيقي. لستم وحْدكم، هي العبارة التي اختصرتْ كل شيء، مَنَحتْنا الاطمئنانَ والأملَ بعد الإحباط واليأس ورَفَعَتْ من معنوياتنا. بعد الكارثة سألتُ نفسي كيف سنقوم بإعادة إحياء المستشفى الذي استغْرَقَ بناؤه 15 عاماً من التقشف اليومي وحرمان الجماعة من كل رفاهية بغية إنهاء صرحٍ طبي تحتاجه المنطقة. سَمِعْنا كلاماً ووعوداً كثيرة، لكن وحدها الكويت وضعتْ ثقلها معنا لإعادة الترميم وتم توقيع العقود ووضْع آلية شفافة للعمل والترميم واستدراج العروض». د. مارون غبش، رئيس قسم التخدير والإنعاش في المستشفى روى لـ«الراي» كيف رأوا الهلال الأحمر الكويتي بين الناس وسط الركام، وكيف نزلوا الى الحيّ المدمر محمّلين بالمواد الغذائية والطبية.
«مجموعة من 8 الى 10 أشخاص في منتهى الأخلاق والإنسانية» يقول غبش «قدّموا لنا المواد الغذائية ومعداتٍ طبيةً كنا بأمسّ الحاجة إليها. كنا كورقةٍ في مهبّ الريح وجاءها مَن يَسْندها. اليوم المستشفى يلملم جراحَه ويعود الى العمل بفضل الأيادي البيض، وقد نظّفْنا غرفتين للطوارئ وقسم العلاج الكيميائي لمرضى السرطان الذين يرفضون تلقّي علاجهم في مكان آخَر وبدأنا رحلة الألف ميل في طريق العودة».
ازرع خيراً
تحصد خيراً

وكأن الخير يعود دائماً إلى أصحابه، فلراهبات الوردية مدرسة في الكويت تم إنشاؤها قبل 62 عاماً تحت اسم «فجر الصباح»، وهي منذ ذلك الوقت تربّي الأجيال وتخرّج الطالبات ليكن ركنا فاعلاً من أركان دولة الكويت.
خمس راهبات من لبنان عشن هناك يعتنين بالمدرسة ويؤدين رسالتهنّ التربوية بصمتٍ وضمير، إحداهن عادتْ إلى لبنان بعد 62 عاماً أمضتْها في الكويت لتموت بين أهلها وكانت وصيتها: «لا تتْركوا الكويت أبداً، لقد صارتْ جزءاً منا».
لم تكن بعثة الهلال الأحمر تعرف قصةَ مدرسة الوردية في الكويت، ولكن الخير جمع بين المؤسستين حتى ان أحد المتبرّعين من آل الحميضي قام بذلك لأن ابنة شقيقته هي خرّيجة هذه المدرسة العريقة. واليوم ينهض مستشفى الوردية من كبوته ويعود ليحضن موظفيه وممرضيه الذين رفض رفضاً باتاً التخلي عنهم أو حسْم مبالغ من رواتبهم.
وبدموع التأثّر الصادقة تختم الأخت نيقولا عقيقي كلامها عبر «الراي» برسالة تقول فيها: «أودّ التوجه الى دولة الكويت، وسمو أميرها وإلى بعثة الهلال الأحمر فرداً فرداً بالشكر الكبير. فنحن كنا مدفونين تحت الردم وهم مَن تولّوا انتشالنا وإيقافنا على أقدامنا. الأمر الوحيد الذي أستطيع تقديمه لهم كردّ للجميل هو صلاتي اليومية وتَضَرُّعي الى الله سبحانه وتعالى ليحفظ لهم صحّتهم وعائلاتهم وأن تكون الكويت دائماً البلد المزدهر، والقوّة لكل إنسان ضعيف على الأرض. أشكركم من كل قلبي».