المفتي أحمد طالب «المتألّم» يُعْلي صوت العقل بوجه «الغوغائية»

1 يناير 1970 06:38 م

لم تكن، لا مصادَفة ولا عابرة، الأحداثُ العاصفةُ التي شهدها السبت الفائت في لبنان وجعلتْ من ذاك اليوم واحدةً من المحطات السود التي كادت أن توقظَ فتنةً يُشاع أنها «نائمة»، وتعيدَ تحريك ذاكرة الحرب وخطوط تَماسِها وانقساماتها.
فالسبت الماضي كان على موعدٍ مع استردادِ الفقير والمثقّف والجائع والناقم والحالِم ساحةَ الاعتراض في وسط بيروت، استكمالاً لحِراكٍ شعبي انفجر في 17 أكتوبر الماضي بوجه المنظومة الحاكمة التي اقتادت البلاد إلى انهيارٍ مالي - اقتصادي وأفق سياسي مسدود.
ولم تنجُ احتجاجات السبت من عملية «انقضاضٍ» عليها، من مناصري الثنائي الشيعي «حزب الله» وحركة «أمل» الذين انخرطوا في عملية توتير متنقّل، حرّك خطوط تماسٍ مذهبية وطائفية، عبر شتْمٍ سافِرٍ لأم المؤمنين السيدة عائشة، رضي الله عنها، ومحاولةِ دخولٍ مستفزّة إلى منطقة عين الرمانة (ذات الغالبية المسيحية).
وبدا مُفْجِعاً مشهد استخدام جمْهرة من الفقراء والجائعين حَطَباً في مواجهةٍ مع انتفاضةٍ كانت تتلمّس طريقها نحو انطلاقة متجدّدة، بما وضع البلاد فوق فوهة أخطار قاتِلة، على الاستقرار الأهلي والعيش المشترك، وأَنْذَر بأن لا خطوط حمر أمام الجنوح المتمادي في الدفاع، ولو غير المشروع، عن مشروع إقليمي.
المفتي الجعفري الشيخ أحمد طالب الذي لطالما شكّل «علامةً فارقة» في زمنِ طغيان «المفارقات المأسوية» في الدين والسياسة والاجتماع، أبى إلا أن يطلّ على تلك الأحداث الخطيرة، من تجربته التَصالُحية والمستنيرة والمستمدة من تراث مدرسةٍ، روّادها موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد حسين فضل الله، وسواهم من أعلامٍ في الدعوة الى الحوار والاعتراف بالآخر ونبذ العنف والتطرف والتعصب.
عبر قناة «الجديد» (برنامج الزميل طوني خليفة) وجّه المفتي طالب كلمةً تآخى فيها العقل والقلب وغلَب عليها الهمّ الوطني والانساني، وجاء فيها:
«أقف بينكم وقلبي يَعْتَصِرُ ألَماً. بماذا أخاطبكم؟ أأقول لكم أيها اللبنانيون ولا أدري إذا كنتم تليقون بهذا الوطن. هذا الوطن يحتاج إلى رجال يقدّمونه على مصالحهم الخاصة، وعلى دوائرهم الضيّقة، وعلى عناوينهم المبتدعة. من دون وطنٍ نحن لا نساوي شيئاً. ماذا تفعلون؟ إلى أين تسيرون؟ وما الذي تريدون؟ هل باستطاعة أحدكم أن يُجيبَني بصدقٍ هل تعون ما تفعلون؟ هل تدركون أنه ليس هناك اسم ينطبق على أفعالكم اليوم، لا وطنية ولا دينية ولا مذهبية، إنما هي الغوغائية بامتياز.
حين تفعلون ذلك فإن دينكم هو الجهل، وحين تُقْدِمون على إطلاق هذه الشعارات التي تقضي على كل شيء ولا تترك في الوطن شيئاً ولا تُبْقي للأجيال شيئاً ولا تورث للأولاد والأحفاد إلا الألم والحقد، أنتم بذلك تتبعون مذهب الجهل والغوغائية. ما الذي تُريدونه من كلماتكم التي لا تُنْتِج إلا التمزّق والدم؟ ألم تكتفوا بما فعل مَنْ مضى من آبائكم وما عشتموه وأنتم صغار وأطفال وشباب وعاينتم بأمّ العين معنى حروب الشوارع ومعنى الرصاص المُفْزِع والمُقْلِق والمخيف ومعنى إطلاق المتفجرات التي لا تُبقي ولا تذر، ترعب النساء وتقتل كل مَن يقف بوجهها مِن الأبرياء؟
ماذا أنْتج مَن كان قبلكم؟ ألم تسألوهم؟ ألم تقرأوا تاريخكُم الحاضر؟ ألم تُشاهِدوا دماءهم؟ هل جفت دموعهم؟ هل انتهت آلامهم؟ هل شفيت جراحهم حتى تعيدوا الكرّة من جديد وتتمسكوا بالأديان وهي منكم براء، وبالمذهبية وهي تتبرأ منكم في أسرع وقت؟
ولكن أنا أقول لكم بكل صراحة، أنتم ضحية، ضحية عدم وجود الرجال مِن القادة السياسيين الذين هم بحق قادة وكبار ورجال مواقف، ومِن أيضاً مؤسسات دينية تركتْ كل شيء من دون رقيبٍ ووضعتْ على منابركم أهل الجهل ليغذوكم بالمذهبية العفنة وليثيروا فيكم الأحقادَ خدمةً للزعيم الذي يستثمر حقدَكم هذا ومذهبيتكم هذه من أجل أن يَصْعَدَ على جثثكم وعلى دمائكم ودموع أمهاتكم، من أجل أن يزيد ويزداد فساداً ويزداد ثروة هو والقريبين منه والحاشية والأسرة والعائلة.
مَنْ منكم يا مَن كنتم تسبّون وتشتمون أم المؤمنين بالأمس، يا مَن وقفتم حتى من دون وعي بوجه دماء الشهداء وعطاءاتهم والإنجاز الضخم في وجه العدو الإسرائيلي، مَنْ منكم كان يعي ماذا يفعل؟ مَن منكم استطاع زعيمُه أن يخلّصه من أزمته الاقتصادية؟ مَن منكم قد مدّ الزعيمُ يدَه من أجل أن يمنع حرمانه؟ مَن منكم استطاع أن يجد حوله من الزعماء السياسيين أو الدينيين؟ مَن أقلّه حفظ ماء وجهكم أمام الجوع وأمام حاجات أطفالكم؟ هل استطعتم ان تتخلّصوا من كل هذه الآلام حتى تخرجوا إلى الشوارع تهتفون للزعيم الذي يسرقكم وتهتفون للخطّ الذي أخذكم إلى الهاوية، وتركتم الوطن الذي هو السياج والحامي وهو الذي يحميكم؟
هذا الوطن هو البيت. من دون بيت أنتم في العراء، وإذا أصبحتم في العراء فلن ينظر إليكم أحد بعين الرحمة وبعين التقدير، إنما سيقول لكم هذا ما كسبتْ أيديكم، فتحمّلوا نتائج ما كسبتْ أيديكم.
أقول لكم خافوا الله في وطنكم، خافوا الله في أولادكم، خافوا الله في أحفادكم، خافوا الله حتى في أديانكم التي تتبرأ مِن كل هذه الغوغائية التي تُقْدِمون عليها».