لم يعد سرّاً، إلّا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن في الإمكان تغطية نور الشمس بغربال، أن النظام الإيراني يفقد أوراقه الواحدة تلو الأخرى. ما شهده العراق أخيراً يعطي فكرة عن ذلك. لم يعد لإيران سوى حقّ الفيتو في العراق بعدما كانت تقرّر من هو رئيس الوزراء، أي الرجل الذي يمسك بمعظم مفاصل السلطة في البلد استناداً الى الدستور الذي يتحكّم، اقلّه شكلاً، بالنظام الذي قام بعد العام 2003.
إلى ما قبل فترة قصيرة، كانت إيران صاحبة القرار في العراق، خصوصا منذ استطاعت فرض نوري المالكي رئيساً للوزراء ومنعت إياد علّاوي من أن يكون في هذا الموقع في العام 2010. كان المالكي رئيسا للوزراء، منذ 2006، لكنّ الذي حصل في انتخابات 2010 ان القائمة المدعومة عربيّا والتي كانت برئاسة إيّاد علّاوي حصلت على أكبر عدد من النوّاب.
كان ذلك كافياً كي يكلّف رئيس الجمهورية الكردي جلال طالباني علّاوي تشكيل الحكومة. رفضت ايران ذلك وفرضت المالكي رئيسا للوزراء بما يخالف الدستور. استطاعت ذلك بالتفاهم المباشر مع إدارة باراك أوباما التي كانت مستعدّة لتسليم كل اوراقها العراقية الى إيران استكمالاً لما تحقّق جزئياً في 2003 عندما أسقطت إدارة جورج بوش الابن النظام، لكنّها أصرّت على أن يكون لديها حضور في العراق. ما لبثت إدارة أوباما أن سحبت الجيش الأميركي من العراق في 2011!
في 2020، صار أقصى ما تستطيع إيران عمله في العراق هو الاعتراض على عدنان الزرفي ومنعه من ان يكون رئيساً للوزراء. الأكيد ان مصطفى الكاظمي المكلّف تشكيل الحكومة الجديدة ليس خياراً إيرانياً. كلّ ما يمكن قوله انّ لا فيتو إيرانيا عليه. يشكل اختياره لشغل هذا الموقع تطورا في غاية الأهمية نظراً الى انّه يعكس التوازنات الجديدة ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة كلّها أيضا.
يوما بعد يوم، يتبيّن كم الضربة التي تلقتها إيران مطلع هذه السنة كانت قوية. في الثالث من يناير الماضي، استطاعت الولايات المتحدة تصفية قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري».
مع مرور مئة يوم على هذه العملية التي نفذتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. آي. إي) بواسطة طائرة من دون طيّار، بات في الإمكان الحديث عن الخسارة التي لا تعوّض للنظام الإيراني. لا يوجد في إيران شخص آخر يستطيع الحلول مكان سليماني.
أكثر من ذلك، أن عملية اغتيال قائد «فيلق القدس» مليئة بالرموز. في مقدّمها المكان الذي قتل فيه. كان سليماني الذي اغتيل بعيد مغادرته مطار بغداد آتياً من دمشق، التي كان قبلها في بيروت، قائداً عسكرياً وسياسياً. كان الوحيد القادر على جمع العراقيين من ذوي الهوى الإيراني تحت راية «الجمهورية الإسلامية» التي أسسها آية الله الخميني والتي يديرها حالياً علي خامنئي بصفة كونه «المرشد».
لا يمكن الاستخفاف في الوقت ذاته بالشخص الآخر الذي استهدفته الغارة الأميركية. ظهر بوضوح أن أبو مهدي المهندس الذي قضى مع سليماني كان شخصية محورية في العراق وليس مجرّد نائب لقائد «الحشد الشعبي» العراقي، الذي يتكوّن من مجموعة ميليشيات مذهبية في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني لا اكثر.
يشكل العراق نموذجاً لما آل إليه المشروع الإيراني في ظلّ حال الإفلاس التي تعاني منها «الجمهورية الإسلامية» على كلّ المستويات. فحتّى لو شاء الكاظمي أن يكون نسخة عن المالكي، لن يتمكن من أن يكون كذلك في ظلّ المعطيات الجديدة التي تفرض نفسها على إيران مثلما تفرض نفسها على العراق. تفسّر هذه المعطيات، التي ولدت من رحم العقوبات الأميركية على إيران ومن هبوط سعر برميل النفط ومن انتشار وباء كورونا، التغييرات الكبيرة التي تبدو المنطقة مقبلة عليها.
غداً أو بعد غد أو بعد شهر أو شهرين، أو لنقل سنة، سينتصر العالم في الحرب على كورونا. ما الذي ستفعله دولة مثل إيران لم تعدّ نفسها لمرحلة تهبط فيها أسعار النفط والغاز الى هذا الحدّ؟
ما لم تعد إيران نفسها له، كذلك العراق، هو لإقامة نظام عصري قابل للحياة. فما يجمع بين إيران والعراق ليس المذهبية وليست «ولاية الفقيه». ما يجمع بينهما هو انّهما بلدان يمتلكان ثروات كبيرة غير النفط والغاز. المرعب أن اقتصاد العراق يعتمد على النفط بنسبة تسعين في المئة، فيما كان الفشل الإيراني كبيراً على كلّ صعيد.
يكفي للتأكّد من هذا الفشل ان كلّ الشعارات التي رفعتها «الجمهورية الإسلامية» عن الاستغناء عن مدخول النفط بقيت شعارات. بعد 41 عاماً من قيام النظام الجديد في إيران، تعتمد «الجمهورية الإسلامية» اكثر من أي وقت على النفط والغاز. لذلك، عرفت إدارة دونالد ترامب أين المكان الذي عليها الضغط عليه والذي يؤلم إيران أكثر من غيره.
لم يبق أمام إيران سوى رهان واحد هو الرهان على سقوط ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل. ماذا إذا سقط ترامب وفاز جو بايدن، هل يكون ذلك كافيا للعودة الى السياسة الأميركية التي اعتمدت في عهد أوباما الذي فرّق بين ممارسات إيران خارج حدودها وبين ممارسات «داعش» من زاوية أن الإرهاب سنّي وهو محصور بالسنّة.
ما لا تدركه إيران أنّ الأيّام التي كانت تنفق فيها مئات ملايين الدولارات على ميليشياتها في المنطقة ولّت. تكمن مشكلة إيران مع العراق في أنها مرفوضة عراقياً، مرفوضة من معظم الشيعة أكثر مما هي مرفوضة سنّياً. وهذا أمر لا يستطيع مصطفى الكاظمي إلا أن يأخذه في الاعتبار. وفي سورية، لم يوجد أي قبول لإيران التي دخلت بلدا من بوابة نظام أقلّوي لم يعد قائماَ منذ العام 2015 لولا الدعم الروسي.
أمّا في لبنان، لم تجد إيران ما تقدّمه سوى نشر البؤس والفقر اللذين يعاني منهما اللبنانيون، خصوصاً في ظلّ «عهد حزب الله» و«حكومة حزب الله».
هناك مرحلة جديدة مختلفة دخلتها المنطقة. لم يعد تراجع المشروع التوسّعي الايراني مرتبطاً فقط بإدارة دونالد ترامب. انّه مرتبط، في المدى البعيد بعوامل عدّة بينها أن سعر النفط لن يعود الى الارتفاع سريعاً. لا يمكن بكلّ بساطة بناء مشروع توسّعي يرتكز على إثارة الغرائز المذهبية بالاعتماد على سعر برميل النفط وحده.