جميل جداً عندما تتكون القناعة الشخصية بعد عصف ذهني وتفكير واستنتاج مبني على تصور، ولكن هل بالضرورة أن يكون حكمك مقدسا؟ للأسف ما يحدث في واقعنا يدعونا غالباً الى الإجابة بنعم! لأن الأفكار الناتجة عن تفكير ذاتي أو تراكمات معرفية، دائماً ما يدافع عنها صاحبها بقوة ويتمسك بها حتى التشنج العقلي، وهذه من أكبر المشكلات التي نعانيها في الكويت في النقاشات العامة وخصوصاً بين التيارات الفكرية والسياسية.
في المرحلة الجامعية أذكر أني دخلت في نقاش متعصّب ومطول مع أحد الأساتذة - الله يذكره بالخير - مختلفين في وجهتي النظر حول موضوع اجتماعي، وبعد أن عجز عن إقناعي بسبب التشنج العقلي الذي أصابني حينها، قال لي «اسمع يا ابني يا حمد هديك معلومة حطها براسك ما حييت، أنت كلامك صح قابل للخطأ وأنا كلامي خطأ قابل أن يكون صحيحا، حتى يحين موعد، إما أن يقنعني كلامك وإما تقتنع بكلامي ولندع الأيام تقرر»، وقد جاء ذلك اليوم ولكن ليس الذي اقتنعت فيه بوجهة نظره فقط وإنما جاء اليوم الذي فهمت فيه البعد التعليمي لنظرته والعبارة العميقة التي علمني إياها، وبعدها صارت منهجي في النقاش حتى اليوم.
تنازع صديقان ذات مرة على لون جدار جميل في أحد شوارع أوروبا، فأحدهم قال لونه كذا والآخر جاء بلون مخالف، حتى وصل النقاش بهما إلى أن كل واحد منهما نعت الثاني بالجنون وعمى الألوان، عندما وصل صديقهما الثالث الذي كان ذاهباً ليشتري لهما أكواباً من الآيس كريم تدخل للفصل في النقاش، وقف بجانب الأول فقال لون الجدار كما تقول فصرخ الأول معلناً فوزه الساحق فرحاً بالانتصار، ولكن سرعان ما بدل حامل الآيس كريم رأيه فقال توقف عن الاحتفال لقد أصبحت أشاهد لون الجدار مختلفاً عندما غيرت مكان وقوفي، وبعد عملية لف ودوران وتمحص تبين للأصدقاء الثلاثة أن رسام الجدار بموهبة فنية رسم الجدار بشكل يعطي أكثر من لون بحسب زاوية الوقوف، وكذلك الحال في النقاش كل يرى الحقيقة وفقاً لمنظوره.
الإنسان ليس لديه سوى عقل واحد، ولذلك فإن مشاركة الآخرين لآرائهم وسماع اجتهاداتهم الذاتية، ذلك يعني أنك تفكر وتستنتج بأكثر من عقل، بل إنه من قمة الذكاء أن تشارك الآخرين أفكارهم وخبراتهم، مهما كانوا بعيدين عن توجهاتك ومعتقداتك، وبذلك تتطور القناعات وتعظم الأفكار، ولعل أكبر دليل على ذلك عندما نشاهد القرارات المتعلقة بحياة الأشخاص في العمليات الطبية مثلاً، لا تتخذ قبل أن تمر بمراحل متعددة من المشاركة والنقاش ولا يتم اتخاذها بناء على قناعات فردية.
الخلاصة أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، ولذلك ليس بالضرورة أن يكون تصورك لحالة معينة كاملاً، يقول الإمام الشافعي: «كلما ازددت علماً زاد فيّ علماً بجهلي»، فتغيير القناعات ليس مخجلاً ولا معيباً، وتذكر كم من المرات قلت في نفسك: (كيف كنت أفعل ذلك، كم كنت ساذجاً).