اماكن / حذر ياقوت... ومخاوفه
«3 - 3»
1 يناير 1970
06:08 م
| جمال الغيطاني |
يحذرنا ياقوت في مدخله الجميل... إلى معجم البلدان بألا نتبع قولا شائعا مؤداه كم ترك الأول للآخر؟ ويذكر قول الجاحظ: ليس على لاعلم أضر من قولهم: لم يترك الأول للآخر شيئا، فإنه يفتر الهمة، ويضعف المنة.
حقا... إذا اتبعنا ذلك فسوف تتقاعس الهمم، ويفتر الحماس للعلم، والحق أن حماس ياقوت ودقته لمما يثير إعجابنا نحن المزودين الآن بوسائل بحث علمي أفضل وأكثر تقدما.
يذكر ياقوت الأوائل... الذين سبقوه، وبهم اهتدى واقتدى، ويقسم الكتب السابقة عليه إلى صنفين، ما ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة، المشهورة، ومنها ما ذكر البوادي والقفار، واقتصر على ذكر منازل العرب الواردة في أخبارهم والأشعار، فأما من ذكروا العمران فكثير عددهم، منهم القدماء جدا، «أفلاطون، وفيثاغورس، وبطليموس»... يقول ياقوت إنه وقف على تصانيف عديدة لهم، ولكن الأماكن التي ذكروها أصبحت مجهولة للناس لتطاول الزمان ومرور الأيام، فلا تُعرف.
أما المسلمون... الذين ذكروا البلاد والممالك، فهم، «ابن خرداذبة، وأحمد بن واضح، والجيهاني، وابن الفقيه، وأبوزيد البلخي، وأبوإسحق الاصطخري وابن خوقل، وأبوعبدالله البشَّاري، والحسن بن محمد المهلبي، وابن أبي عون البغدادي، وأبوعبيد البكري».
أما الذين قصدوا ذكر الأماكن العربية، والمنازل البدوية... فطبقة أهل الأدب، ومنهم الأصمعي، والهمداني صاحب كتاب «صفة جزيرة العرب» وأبوالأشعث الكندي في جبال تهامة، وأبوسعيد السيرافي الذي ألف كتاب عن الجزيرة العربية، وأبومحمد الأسود الفندجاني، له كتاب في مياه العرب، وابن أبي حفصة، له كتاب مناهل العرب، وهشام الكلبي، له كتاب اشتقاق البلدان. والزمخشري، له كتاب في البلدان أيضا، وأبوعبيد البكري الأندلسي، له كتاب «معجم ما استعجم».
ويقول ياقوت موضحا... انه لم يطلع على هذا الكتاب، إنما سمع عنه وبذل جهدا للحصول عليه وفشل، وهذا الكتاب مطبوع الآن ومتداول في جزئين. يذكر ياقوت العديد من أسماء المؤلفين والكتاب، الحقيقة أنه يذكر مراجعه وأسانيده التي اعتمد عليها، يضعها في المدخل، وليس قبل الفهرس، وهذا يمثل ذروة نقاء الضمير العلمي، والالتزام بالمنهج، انظر إليه إذ يقول:
«ثم وقفني صديقنا الحافظ الإمام أبوعبدالله محمد بن محمود بن النجار، جزاه الله خيرا على مختصر اختصره الحافظ أبوموسى محمد بن عمر الأصفهاني، من كتاب ألفه أبوالفتح نَصْر بن عبدالرحمن الإسكندري النحوي فيما ائتلف واختلف من أسماء البقاع، فوجدته تأليف رجل ضابط قد أنفد في تحصيله عمرا، وأحسن عينا وأثرا».
ويكشف ياقوت... عن سرقة علمية في المدخل قام بها أحد معاصريه للكتاب السابق، يقول: «ووجدت الحازمي رحمه الله، قد اختلسه وادعاه، واستجهل الرواة فرواه، ولقد كنت عند وقوفي على كتابه أرفع قدره من علمه، وأرى أن مرماه يقصر عن سهمه، إلى أن كشف الله عن خبيته وتمحض المحض عن زبدته، فأما أنا فكل ما نقلته من كتاب نصر، فقد نسبته إليه وأحلته عليه، ولم أضح نصبه، ولا أخملت ذكره وتعبه، والله يثيبه ويرحمه». هكذا يذكر لنا ياقوت مراجعه قبل أن نقلب أولى صفحات المعجم، يعدد ويحضر جهود السابقين عليه، يمتدح منهم من يستحق، وينقد من يرى أنه يجب أن ينقد، وبعد أن يفرغ ينتقل إلى المنهج.
ليست الكتب فقط هي التي اعتمد عليها ياقوت، إنما أشعار العرب، وتواريخ أهل الأدب، والرواة، ومشاهداته في أسفاره، وما حصله في تطوافه الطويل، جمع شتات ما قرأ وما سمع، وأضاف إليه ما أهمله السابقون، ورتبه على حروف المعجم، وضبطه لغويا، ذكر اشتقاقه إن كان عربيا، ومعناه إن كان أعجميا، وشرح غامضة، وذكر اسم البلاد المحيطة به، وكم المسافة بينه وبين ما يقاربه، وخصائصه، والكواكب المستولية عليه، ومن دفن فيه من الصحابة والتابعين، ونبذ من الأشعار المرتبطة به، وهي شاهدة أيضا على صحة ضبطه واتقانه، وفي أي زمن فتحه المسلمون، وهل فتح صلحا أو عنوة، ومن يملكه الآن؟
هذا ما حاول ياقوت أن يلتزم به، ولكنه سرعان ما يستدرك قائلا إن هذا لا يطاوعه في كل الأحوال، إنما قد يقتصر على البلدان المشهورة والأمهات المعمورة، ربما ذكر بعض هذه الشروط دون بعض طبقا لاجتهاده، وما توفر له من معلومات.
***
بعد أن نفرغ من مطالعة أهداف ياقوت ومنهجه، يذكر لنا معاناته في تأليف هذا المرجع الفذ، الذي لم يتجاوزه مرجع آخر حتى عصرنا الحديث، يقول بإيقاع مؤثر:
«ولما تطاولت في جمع هذا الكتاب الأعوام، وترادفت في تحصيل فوائده الشهور والأيام، ولم أنته منه إلى غاية أرضها، وأقف على غلوة مع تواتر الرشق فأقول: هي إياها ...ورأيت تعثر قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوج ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم وانهدامه، وقفت ها هنا راجيا فيه نيل الأمنية، بإهداء عروس إلى الخطاب قبل المنية، وخشيت بغتة الموت، فبادرت بإبرازه الفوت، على أنني من اقتحام ليل المنية عليّ قبل تبلج فجره على الآفاق لجدُّ حذر، فكيف ثقتي بجيش عُمْرٍ قد بينته من كتائب الأمراض المبهمة حواطب المقانب أو أركن إلى أصباح ليل اعترضتني فيه العوارض من كل جانب.
كثيرا ما قرأت هذه الفقرة بصوت مرتفع، أكاد أتخيل ملامح ياقوت أثناء كتابتها... والحق أنها لا تعبر عنه هو فقط، لكنها عني تكني، وإلى كل من بذل جهدا مضنيا من أجل أدبه أو علمه، أو فنه، وأبدع في ظروف وعرة، وصعبة، وفي عالم لا تمد عناصره أيدي المساعدة، بينما العمر يولى، والشباب ينقلب إلى مشيب.
هذه الفقرة بالذات أجد فيها صدقا عميقا، وصراحة في التعبير قل أن نجدها في النصوص النثرية... نعم، نقابل هذه الأنات كثيرا في الشعر، ولكن نادرا ما كان المؤلف العربي القديم يعبر عن ذاته، ليس عن عجز، وإنما عن تواضع شديد، ولكن التعبير عن وجدانيات الكتاب تتعدد أساليبها، من هنا تأتي ضرورة قراءة جديدة لعناصر تراثنا القديم... قراءة غير جامدة، وغير متأثرة أيضا بمقولات الحداثة التي قد تفقد خصوصية تميز تراثنا وأدبنا. هذا موضوع كبير، ربما عدت إليه أكثر تفصيلا، لكني في ختام هذا المدخل الجميل، لهذا المعجم الغني، الفذ، وبعد تلك الانات الصادقة يسترجع ياقوت إحساسه القوي بما أنجز وقدم، فيقول في نبرة قوية، متحدية:
«... وعلى ذلك أقول ولا أحتشم، وأدعو إلى النزال كل عَلَم في العلم ولا أنهزم، إن كتابي هذا أوحد في بابه، مؤمر على أضرابه، ولا يقوم بإبراز مثله، إلا من أيَّد بالتوفيق، وركب في طلب فوائده كل طريق، فغار تارة وأنجد، وطوح بأجله بنفسه فأبعد، وتفرغ له في عصر الشبيبة وحرارته، وساعده العمر بامتداده وكفايته، وظهرت منه إمارات الحرص وحركته».
يقول ياقوت... إن بعض الطلاب التمسوا منه اختصار معجمه فأبى، وفي هذا الجزء من المدخل يبدو حرص ياقوت الشديد على وصول مؤلفه كاملا، ويقدم مفهوما عميقا، فريدا، لأهمية تكامل النص... إنه يوجه خطابه مباشرة إلى من سيقوم بعده بنسخ المعجم، أو نقله، يقول في عبارات جميلة، مؤثرة:
«ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه ألا يضيع نصبي، ونَصْبَ نفسي له وتعبي، بتبديد ما جمعت، وتشتيت ما لفقت، وتفريق ملتئم محاسنه، ونفي كل عَلَقٍ نفيس عن معادنه ومكامنه، باختضابه، واختصاره، وتعطيل جيده من حُليِّه وأنواره، وغصبه إعلان فضله وأسراره، فرُب راغب عن كلمة غيره متهالك عليها، وزاهد عن نكتة غيره مشحوف بها، ينعني الركاب إليها... فإن أجبتني فقد بررتني، جعلك الله من الأبرار، وإن خالفتني فقد عققتني، والله حسيبك في عقبى الدار.
ثم اعلم أن المختصر لكتاب كمن أقدم على خلق تسوي، فقطع أطرافه وتركه أشل اليدين، أبتر الرجلين، أعمى العينين، أصلم الأذنين، أو كمن سلب امرأة حُليها فتركها عاطلا، أو كالذي سلب الكمي بسلاحه فتركه أعزل راجلا...».
وأقول للشيخ الإمام شهاب الدين أبي عبدالله ياقوت بن عبدالله الحموي، الرومي، البغدادي، صاحب معجم البلدان: لا تقلق ولا تحزن، فقد وصل إلى زماننا الذي سرعان ما سيلحق بزمانك معجمك العظيم سالما من دون اختصار، أو تشويه... وكلما طالعناه دعونا لك، فنم قرير العين في الدار الآخرة... رحمنا الله وإياك!