من الخميس إلى الخميس

صغروا عن الهجاء

1 يناير 1970 02:07 م

توفي الشاعر الحطيئة عام 59 للهجرة، وهو واحد من كبار الشعراء الهجائيين حتى أنه هجا أباه وأمه، قال يهجو أباه كمثالٍ على سوء أدبه:
فنِعْمَ الشيخُ أنتَ لدى المخازي
وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
ونال أذاه عمه وخاله وزوجته حتى وصل لنفسه، فقال يهجوها:
أرَى لِيَ وَجْهاً شَوَّه اللّه خَلْقَهُ
فقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وقُبِّح حامِلُهْ
وللحطيئة لسان مبدع لكنه لم يستفد منه إلا في الهجاء، ومن أكبر زلاته هجاؤه للصحابي الكريم الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس في قوله:
دَعِ المكاِرم لا ترحل لبُغيتها
واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
وحين اشتكى الزبرقان للخليفة الفاروق رضي الله عنه قام الخليفة عمر، بما عُرف عنه من عدل، بسؤال الشاعر حسان بن ثابت عن ما زعمه الزبرقان، فقال حسان للفاروق: ما هجاه يا أمير المؤمنين بل سلح عليه، أي رمى عليه فضلات الإنسان كتشبيه لقوة الهجاء.
وقد أصبح هذا البيت بشهادة شاعر كبير مثل حسان بن ثابت من أقوى أبيات الهجاء عند العرب، حتى أتى أبو الطيب المتنبي، الذي لم يُصنف أنه من كبار شعراء الهجاء، ليصف رجلاً قام بالإساءة إليه، فجاء المتنبي ببيتٍ أحسبه الأبلغ في الهجاء:
صَغُرتَ عَنِ المَديحِ فَقُلتَ أُهجى
كَأَنَّكَ ماصَغُرتَ عَنِ الهِجاءِ
فالمتنبي هنا لم يسلح على الرجل فحسب بل ألغاه من الوجود وحرمه حتى من الإهانة، أيُ رجلٍ هذا الذي هو أصغر من الهجاء؟
إنه سؤال مستحق في أيام أبي الطيب المتنبي، ولو أن شاعر العرب الكبير عاش بيننا اليوم لما أتعب نفسه بإبداع ذاك البيت، فمن هم أصغر من الهجاء اليوم كثيرون، وكثيرون جداً، ومن العجائب التي نراها اليوم أن يتحول الذين صغروا عن الهجاء إلى أبطالٍ، ويصبح قادة الإرهاب والحقد والطائفية قدوات، أليس هذا من العجائب التي لم يعرفها الزمن قبلنا!
لقد كان الهجاء عند العرب ذا قيمة يوم كان من يستحقونه قليلاً، أما اليوم فلم يعد للهجاء قيمة فقد تداخلت الأمور عند البعض وأصبح المجرمون أبطالا يستحقون المديح بدلاً عن الهجاء، ذلك الهجاء الذي كَبُرَ عليهم.

[email protected]