في واقع الحياة أتكلم بلغة متعددة الهويات مع الناس فيقولون لي دائماً: من أين أنت؟
وفي أحلامي أتكلم بلغة أمي والمناغاة الأولى لها، فأجد نفسي شخصاً أعرفه، وأفكر بيني وبين نفسي بلغة ثالثة أكثر صفاتها أنها أسيرة للمجاز، حتى إذا استجمعت قواي وكثفت اللغات واللهجات جميعاً، لم أعد مفهوماً لدى الآخرين.
نعم يا صديقي... أنا لغتي المتعددة وسر الحرف وأبعاد الكلمة.
كل ذلك اكتشفته في اليوم الثالث، أما في اليوم الثاني فقد ماتت أمي، وولدت ابنتي.
في اليوم الأول كنت أحب السيارة أكثر من الطريق الذي أسير فيه، وأحب التلفون أكثر ممن أتحدث معهم، وأحب الكتاب الجديد أكثر من الفكرة التي يرسمها، لذلك فقد كنت حريصا على اقتناء الصوت وليس صداه، وكنت أحب الثمرة لا الشجرة، وكنت أركض إلى الغد لا إلى ما رأينا أمس، وقد كنت صغيراً بما يكفي لكي أنصت إلى جسد عازفة الكمان لا إلى اهتزاز الوتر في قلبها، صغيراً جداً بحيث أفتعل مشاجرة مع وردة أسفل بيتي، فقط لأنها لا تصهل مثل الحصان، ولم أكن أبكي إلا إذا ضربني أحدهم.
ثم تنتقل يا صديقي بعمرك الذي تحمله من اليوم الأول إلى الثاني من دون أن تعي ما الذي كبر فيك، جسدك أم عقلك أم روحك، لغتك أم قلبك أم مزيج من هؤلاء جميعا، فيها سمات الطفولة في بعض أجزائها وفي الآخر ريعان الشباب، ستبدو لك الأشياء كرمية نرد لا تدري متى يتوقف عن الدوران.
نعم أيها الحكواتي الصغير... ففي اليوم الثاني كان عليك أن تعطي مقابل حبة القمح التي تقدم لك قلبك، وعليك أن تمشي إلى قيدك ودورك وتوقعات الآخرين منك، وفي المقابل عليك أن تخفي حلمك، وأن تتحطم للحفاظ على الهشاشة حولك.
وفي هذا اليوم تحديداً رأيت أن الموت نهاية الأشياء ورحلة إلى العدم، والولادة بداية الأشياء ورحلة إلى المجهول، ولم أعد أبكي فقط لأن الآخرين قد ضربوني، بل لأن أشياء أخرى يجب البكاء عليها.
وفي هذا اليوم سيعبر عليك الآخرون ويشتبك ظلك بما ليس ظلك، حتى تبدو مثل جسر قديم بين محطتين، مر عليه البار والفاجر، والعشاق واللصوص، وسبع طبقات اجتماعية... النبلاء ورؤوس الأسر العريقة وأصحاب الديانة والفضيلة ومن يحق لهم أن يذيلوا أسماءهم بالسيد الفاضل والسيدة الفاضلة وأعضاء البرلمان ومن ورثوا الأراضي والألقاب وبقية السكان المقترضين والحرفيون ومن تأسرهم الخرافة ومنزوعو الهوية، حتى بدوت مثل جسر تحطمت حوافه ونخر المناخ والرطوبة في أعمدته وأطرافه، تغطيه الأصباغ ولكنه مليء بالتجاعيد، ينتظر مرور شخص ما ليعد له صفة «العبور الذاتي» أو ليعبر به ومعه من محطة إلى أخرى بدلاً من حالة «المابين» بين محطتين لا يصل إليهما وإن كان يوصل بينهما.
تعتقد أنك طير، ولست جسراً.
ويأتي اليوم الثالث مبكراً على غير عادته، لأكتشف أنني لست كبيراً بما يكفي لكي أكون طيراً، يجمع لي ابني الصغير بقايا ريش الحمام من ساحة مدرسته ويقول لي: اصنع جناحاً يا أبي.
بحثت عن لمسة من التماسك في اليوم الثالث، واكتشفت أن لدي ما يكفي من الماضي لكي أروي، ولدي ما يكفي من الخيال لكي أصنع حاضراً جديداً، وواثقاً بخطواتي أسير نحو الغد ولدي ما يكفي من الأمل، وستكتشف يا صديقي أنك يجب أن تبتعد أحيانا، لكي تعطي الفرصة دائماً لمن حولك لكي يقولوا لك: ابتعد، وفي الوقت نفسه تعطيهم الفرصة لكي يقولوا لك: اقترب، تكون لهم مثل الشمس، لا تقترب كل القرب فتحرقهم، ولا تبتعد كل البعد فتجمدهم.
ويصبح كل ما تريد أن تحقق ما تقول لغة مثيرة للاهتمام وشعورا حقيقيا بالدفء.
ويصبح الموت بالنسبة لك عتبة وليس عدما، والولادة امتداد وهوية وليست قفزة إلى المجهول، وتدرك فجأة أن المعجزة ليست في أن تطير أو تمشي على الماء كما فعل المسيح، بل إن الحياة أنجزت فيك معجزتها الأخيرة، وأنبتت في قلبك العشب، فتحرر من لوثة الحقد والغرور، ومِلْ إلى الصدق والنزاهة والصراحة ولطف المزاج.
في اليوم الثالث... كل ما تسعى إليه هو ترميم ما تبقى منك من مرور العابرين، والعيش حراً كطير يصادق كل غيمة.
يقولون إن تاريخ التطور الفردي للإنسان هو ذاته تاريخ تطور السلالة.
moh1alatwan@