رأي قلمي

عالم المثال...!

1 يناير 1970 11:57 م

إن الإنسان حين يرفض الواقع لا يظل في فراغ، وإنما يحاول بناء نموذج وهمي للواقع تكيفاً ومغالبة، وهذا النموذج سيكون تصويراً مشوهاً للواقع المفروض، وسيكون أكثر عكساً ومحاكاة لمشاعرنا وأمانينا منه لأي شيء آخر، وتكون محصلة ذلك مصارعة مشكلات وبناء رؤى من صناعتنا نحن، وليست من إفرازات الواقع ومعطياته.
إن مجتمعنا يعاني من مشكلة العجز عن النفاذ إلى الواقع، ومعرفة شروطه وتفاعلاته معرفة مجردة عن الرؤى الشخصية والتأملية الملونة بالثقافة الخاصة. وفي حقيقة الأمر هي أن كل واحد منا يندفع نحو فهم الواقع بطريقته الخاصة، إلا أن الصحيح أن الاختراق السوي للواقع واجتراحه لا يتم إلا من خلال دراسات وإحصاءات مؤسساتية أكثر منها فردية تأملية.
المشكلة المرتبطة بهذا أن الواقع المؤلم يدفع الناس بطريقة خفية إلى تجاهله ورفضه، على نحو ما يدفع الألم الشديد بصاحبه إلى الغيبوبة بغية التخلص من الشعور بالواقع، وربما كان إنكار بعض الناس لصعود الآخر إلى القمر من هذا الباب، فإنكار الواقع يشمل تجاهل مشكلاتنا، كما يشمل تجاهل إنجازات الآخرين.
إن أردنا النجاح في عملية السيطرة على الواقع وتحويله ما نريد علينا أن نحاول أن نجعل الفكر ذاتاً ومن الواقع موضوعاً، وذلك بفهم الواقع بأقصى قدر ممكن من الحياد والموضوعية، فلا نصور الواقع كما نحب، ولا كما ينبغي أن يكون، كما أن علينا أن ندرك أن الواقع الاجتماعي ليس انعكاساً مباشراً للأفكار السائدة، فالأفكار دائماً طليقة تنتمي إلى عالم المثال الذي لا يعرف القيود، وحين تندمج الفكرة في الإنسان، وتبدأ بالتبلور عن طريق مخاضات التجسد في الواقع العملي تكون قد كبلت نفسها بقيود الزمان والمكان وتعدد الفهم وتنوع الإمكانات، وكل ذلك يحتم نوعاً من المفارقة بين الواقع والمثال. ومن ثم فإن فاعلية أي مجتمع تقاس بما يحققه من المطابقة بين مثله وواقعه، وذلك أمر يتفاوت من مجتمع إلى مجتمع ومن زمان إلى آخر.
إن تجميد صورنا الذهنية عن الواقع سيجعلنا نعيش خارجه، وسيجمّد حركتنا في النهاية، لنصير إلى المزيد والمزيد من التخلف.

[email protected]
‏mona_alwohaib@