في «ربع الساعة الأخير» عشية الاستشارات النيابية المُلْزِمة لتكليف رئيس الحكومة العتيدة، خَلَط رئيس الوزراء المستقيل سعد الحريري الأوراق مجدداً و"قلَبَ الطاولة" بإعلان عزوفه عن الترشّح، ليُفتح المأزق السياسي على غموض كبير فيما لبنان عالق في "فم" أسوأ أزمة مالية - اقتصادية في تاريخه الحديث.
وباغَتَ الحريري مساء أمس الجميع ببيانٍ بدا محمّلاً برسائل "مشفّرة" برسْم ما سبق وتلا إرجاء الاستشارات يوم الاثنين الماضي حين وجد نفسه أمام ما اعتبره "عيْباً" ميثاقياً بعدم وجود غطاء مسيحي وازن لتكليفه، بعد الاصطفاف الذي شكّله قرار حليفه المفترض حزب "القوات اللبنانية" بالامتناع عن تسميته معطوفاً على رفْض فريق رئيس الجمهورية ميشال عون تكليفه معاودة تشكيل الحكومة، وصولاً إلى محاولات انتزاع تحالف عون - الثنائي الشيعي ("حزب الله" - حركة أمل) شروطاً منه تتصل بتأليف حكومة تكنو - سياسية.
وجاء فبيان العزوف الذي أصدره الحريري: "منذ ان تقدمتُ باستقالتي قبل خمسين يوماً تلبية لصرخة اللبنانيين واللبنانيات سعيتُ جاهداً للوصول الى تلبية مطلبهم بحكومة اختصاصيين رأيتُ أنها الوحيدة القادرة على معالجة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية الخطيرة التي يواجهها بلدنا". وأضاف: "لما تبيّن لي أنه رغم التزامي القاطع بتشكيل حكومة اختصاصيين، فإن المواقف التي ظهرتْ في الأيام القليلة الماضية من مسألة تسميتي هي مواقف غير قابلة للتبديل، فإنني أعلن أنني لن أكون مرشحاً لتشكيل الحكومة المقبلة، وأنني متوجه غداً (اليوم) للمشاركة في الاستشارات النيابية على هذا الأساس، مع إصراري على عدم تأجيلها بأي ذريعة كانت. وقد دعوتُ كتلة المستقبل النيابية للاجتماع صباح الخميس لتحديد موقفها من مسألة التسمية".
وإذ جاء أول ردّ من مصار القصر الجمهوري بأن الاستشارات في موعدها اليوم وبحضور كل الكتل، تدافعتْ الأسئلة حول إذا كان هذا القرار سـ "يصمد" في ضوء أمرين:
* الحسابات المعقّدة التي تحكم هذا الاستحقاق وصعوبة تَصوُّر إمكان التوافق على بدائل لا تقفز فوق ثابتتيْن متقاطعتيْن: الأولى ما يمثّله الحريري في معادلة التوازنات السياسية - الطائفية وإصرار الثنائي الشيعي على عدم السير بأي مرشّح لا يغطيّه زعيم "المستقبل"، والثانية رفْض هذا الثنائي الانزلاق إلى حكومة مواجهةٍ (من لون واحد) تستجلب المزيد من "المتاعب" الداخلية والخارجية.
* المؤشرات المُقْلِقة التي ارتسمت على الأرض في الأيام الأربعة الأخيرة مع توترات نقالة رُبطت بهدفين متلازمين: إطلاق ثورة مضادة لـ "ثورة 17 أكتوبر" من أحزابٍ في السلطة لـ "إخماد" الانتفاضة وكسْر إرادتها بقيام حكومة من اختصاصيين مستقلين تمهّد لانتخابات نيابية مبكرة، ومحاولات "النفخ" في اضطرابات ذات طبيعة مذهبية لإعلاء أولوية "وأد الفتنة" وحفظ الأمن على ما عداه في مقاربة الملف الحكومي تكليفاً وتأليفاً.
ولم يكن جفّ بيان انسحاب الحريري، حتى ازدحمت بورصة المرشّحين المحتملين بأسماء منها تمام سلام (سبق أن رفض)، ونواف سلام (هناك فيتو عليه من "حزب الله")، والوزير السابق حسان دياب، وخالد قباني وفؤاد مخزومي (يفضّله التيار الوطني الحر).
وسبقت "مفاجأة" الحريري مناخاتٍ أوحتْ بإمكان عبور الاستشارات وصولاً إلى تكليفه ارتكازاً على مؤشرات عدة، بينها التمهيد وبما يشبه "الفتوى السياسية" من رئيس البرلمان نبيه بري للقفز فوق "شائبة" الميثاقية الناقصة في التكليف (موقف الثنائي المسيحي) واعتبار الحصول على نحو 18 صوتاً مسيحياً من بين الـ 57 الذين كانوا مرجّحين للحريري (من أصل 128 نائباً) كافية للإقلاع بالتكليف.
في المقابل، كانت أوساط سياسية تعبّر عن حذر كبير حيال ترقُّب طيّ صفحة التكليف اليوم مستندة إلى مؤشراتٍ ملتبسة كان أبرزها:
الكلام عن أن عون وبري ينتظران أجوبة من الحريري على طرْح قدّمه رئيس البرلمان لزعيم "المستقبل" خلال لقائهما أول من أمس ويقوم على حكومة تكنو - سياسية (يصرّ عليها عون و"حزب الله" و"أمل") وفق صيغتين، الأولى تشكيلة من 18 وزيراً تضمّ 4 وزراء سياسيين - تقنيين والباقي من الاختصاصيين (تَردّد أن الحريري تُطلق يده في تسميتهم)، والثانية من 24 وزيراً بيهم 6 وزراء سياسيين.
وانطوى "انتظار الجواب" على بعض الالتباسات، باعتبار أن "حزب الله" كان واضحاً بلسان أمينه العام السيد حسن نصر الله لجهة "التكليف أولاً" وبعدها البحث في شكل الحكومة، في حين أن مصادر بري كانت سرّبتْ أمس أنه قرّر تسمية الحريري (قبل انسحابه). علماً أن هذه الأوساط كانت ربطت الردّ المفترض أكثر بالرئيس عون الذي ربما أراد ضمانات الحدّ الأدنى حول توازنات الحكومة التكنو - سياسية ومَن يسمّي الاختصاصيين فيها بحال قبِل الحريري بتشكيلها.
وإذ اعتبرت هذه الأوساط أن محاولة الضغط على الحريري من بوابة انتظار الجواب بدت في إطار الدفْع نحو نوع من المقايضة والسعي لانتزاع تنازل منه مقابل عدم تمثيل رئيس "التيار الحر" الوزير جبران باسيل في الحكومة (وفق معيار الوزراء السياسيين اللايت)، فإنها رأتْ أن ثمة مَن اعتقد وعن سوء تقدير أن زعيم "المستقبل" قد يكون معنياً بتقديم مثل هذه الأجوبة مسبقاً تلافياً لحصول مفاجأة كان لمّح إليها حين طلب إرجاء الاستشارات يوم الاثنين وهي أن يفوّض نواب "التيار الحر" أصواتهم لعون وهو ما كان سيدفعه الحريري للاعتذار لاعتباره ذلك مخالفة دستورية.
وكان لافتاً عشية الاستشارات المفترضة اندفاعة إعلام قريب من قوى 8 آذار إلى الترويج لمحاولة أميركية على متن زيارة الديبلوماسي ديفيد هيل (يصل إلى بيروت اليوم) لإيصال الديبلوماسي والقاضي نواف سلام إلى رئاسة الحكومة، من ضمن ما بدا أنه "لعبة الأعصاب" مفتوحة اشتملت ايضاً على "أسماء احتياط" أخرى جرى التداول بها كبديل عن الحريري رغم صعوبة تَصوُّر أن تمرّ في الاستشارات.
وفي موازاة ذلك برزت حركة المخزومي في اتجاه دار الفتوى التي كانت أعلنت قبيل انسحاب المرشح سمير الخطيب قبل نحو 10 أيام أن الحريري هو المرشح الوحيد للطائفة الاسلامية.
ونقل المخزومي عن دريان تأكيده أن الاستشارات هي التي تحدد هوية المرشح لرئاسة الحكومة "وأن أبواب الدار مفتوحة لأي شخصية يتم تكليفها، لأن جميع أبناء الطائفة السنية هم أبناء هذه الدار".
ولم تحجب هذه التطورات المخاوف من وجود خطة ممنْهجة لـ "إطفاء" الانتفاضة المستمرة منذ 64 يوماً عبر "إغراقها" بـ "فوضى منظّمة" واختراقها بـ "متاريس" طائفية ومذهبية.
ورأت أوساط مطلعة أن ما شهده وسط بيروت وطرابلس والنبطية وصيدا في الأيام الأربعة الأخيرة من أعمال عنف ضدّ المتظاهرين و"غزوات" من مناصرين لـ "حزب الله" و"أمل" لمعقل الثورة وحرق عدد من الخيم، يأتي في سياق إما هروب إلى الأمام من السلطة العاجزة عن إدارة خلافاتها أو محاولة كسْر شوكة الثوار بملاقاة الخيارات للحكومة الجديدة من خارج المواصفات التي يريدها الشارع.
وكان بارزاً ليل الثلاثاء - الاربعاء فوضى مريبة شهدتها طرابلس بعد انتشار فيديو مسيء للصحابة وشملت اعتداءً على المبنى الذي يقطنه مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار وحرْق شجرة الميلاد في ساحة النور، بالتزامن مع تحركات في بيروت شملتْ قطع الطريق عند كورنيش المزرعة مع توترات ذات طبيعة حزبية - مذهبية، وصولاً إلى تكرار محاولة الدخول الى ساحتيْ رياض الصلح والشهداء من مؤيدين لحزب الله و"امل".
وكان الأبرز في إطار ملاقاة استمرار الانتفاضة الشعبية وتركيزها على التحرّك في محيط مقرّ البرلمان في وسط بيروت، إقامة تحصينات حديدية عند مداخل مجلس النواب، وفي الوقت نفسه بناء "جدران عازلة" من الباطون والمكعبات في عدد من النقاط في قلب العاصمة والتي توصل إلى رياض الصلح خصوصاً (لمنع سهولة وصول مناصري الحزب والحركة اليها)، الأمر الذي قوبل باستهجان إقامة "جدران الفصل" بين اللبنانيين.