مثقفون بلا حدود

رسالة إلى ولدي... شعر خليفة الوقيان (1 من 2)

1 يناير 1970 09:53 ص

اللوحة الفنية الأولى: لكل شاعر أدواته الخاصة لصناعة أغراضه الشعرية، معبراً بذلك عن حالة من السعادة والرخاء واليسر باستخدامه للمرأة في المقام الأول ناسجا منها لوحة فنية جميلة ورائعة نابضة بحياة مفعمة بالسعادة والهناء، أو باستخدامه لأدوات الطبيعة مثل الورود والبساتين والقمر والسماء والنجوم... إلخ. أو معبراً عن حالة من اليأس وقلة الحيلة باستخدامه للحيوانات كرموز وإشارات يتوارى خلفها بسيميائية عما يجول في خاطره من أفكار وتطلعات. أو عن نفس مغبونة مقهورة، شلها اليأس، وخنقتها الرتابة، وأنهكها المتسلقون الوصوليون، وهدّها المنافقون المتملقون المتزلفون.
لذلك أرى أن الشاعر خليفة الوقيان، حينما استخدم الطفل للتنفيس عما بداخله كان موفقاً جداً، حيث إن الطفل هو رمز البراءة والمثالية، لم يلوث بعد بأفكار الأحزاب والتيارات والمذاهب، فالشاعر هنا وظف الطفل بوظيفة الجسر الذي تعبر عليه الإمدادات، لقد عبّر بأفكاره ونقلها إلى العالم عندما خاطب طفله قائلاً:

بني، يا قطعة مني، ويا كبدي
أني عليك جنيت اليوم يا ولدي
ها أنت تصرخ في يوم أتيت به
هل كنت تعلم ما يخفى بصدر غد
إني لأعجب، ماذا نبتغي! عداداً
قطعان سائمة ترعى بلا رشد
لا. لا تقل إننا نسعى لنعمر في
هذا الوجود بناء شامخ العمد
ما كان هم الأولى مروا على عجل
أن يعمر الكون، هذي كذبة الأبد
إنا عشقنا بقاء لا فناء له
هيهات، هيهات، أن بقى بلا أمد
فأنت تأتي لأمضي تلكم سنن
آت وغاد، وأحداث بلا عدد
سفاهة، عبث، لهو نساق له
يوم من السعد أم دهر من النكد

الشاعر هنا يقرّ بأن هذا الولد هو قطعة منه، ولعل السيميائية هنا تحمل الأفكار ذاتها، فالابن مجازاً ما هو إلا فكر الشاعر بدليل أنه في الوقت ذاته يحمل نفسه تبعات هذا الإنجاب، بل وعده جناية ارتكبها بحق هذا المولود البريء الذي حطت رجلاه في عالم الذئاب، فهل هذا يعني وأداً للأفكار ونفيا للمثالية النقية الصافية؟ وهل هذا يعني قمعاً للآراء، ففي عالم الذئاب: ذئب يعوي في الظلمة... وذئب يعوي خوفا من أمة، وذئب يعسل الطريق للحوايا... يستجدي من في القصر وأصحاب النوايا.. وذئب يجالسك على العشاء، ويوحي لك بالوفاء، حتى إذا خاب الرجاء.. انقض عليك بفمه، وحينما يسيل اللعاب تذكر معي من قال: (إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب).
لا شك بأن الشاعر خليفة الوقيان من الشعراء المبرّزين، ومن عمالقة الشعر في الكويت وخارج الكويت، ولكن من الواضح في هذه القصيدة أن لديه أزمة حقيقية؛ فقد كان قاسياً بحجم مَنْ قسا عليه وحاول تهميشه وإقصائه وعدم السماع له. إن شاعرا بحجم خليفة الوقيان من الإلهام والإبداع والعبقرية الشعرية، وإن بلداً بمكانة دولة الكويت السّباقة في ولادة شعراء مجددين، كان ينبغي على الدولة الاهتمام به أكثر من ذلك، مصر أعطت مكانة لأمير شعرائها أحمد شوقي، وفلسطين أعطت مكانة لشاعرها محمود درويش، وسورية أعطت مكانة لشاعرها نزار قباني، والسعودية أعطت مكانة لشاعرها غازي القصيبي، ولكن أين مكانة شاعرنا خليفة الوقيان، الرجل برز بفضل الله ثم مجهوداته الفردية، وإلا لطمس مثلما تم طمس علماء ومفكرين وشعراء وأدباء من أبناء جلدته خنقهم الإسلام السياسي ودفنهم أحياء.
قبل أن يتغلغل الإسلام السياسي في مجتمعنا، ما كنا نعرف مناطق داخلية وأخرى خارجية، ولا كنا نفرق بين الحضري والبدوي، ولا كنا نميز بين السني والشيعي، إلى أن دخل فيروس الإسلام السياسي في دماغ المجتمع وكسر ضلوعه، ومزق أحشاءه، وزعزع أركانه، وشتت شمله، (سفاهة، عبث، لهو نساق له... يوم من السعد أم دهر من النكد)، ولعل قصيدة الشاعر (تدروشوا تعمموا) الذي كتبها أخيرا خير شاهد على ذلك... وللحديث بقية.

* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]