الإعلام مثل الكلام له «لغة بيضاء»، وهي اللغة التي تعتمد مفرداتها على كلمات مفهومة للجميع مع اختلاف لهجاتهم وبلادهم وثقافاتهم ومع تنوعها أيضاً، فالشاعر في العامية - مثلاً إن كان غنائياً أو غيره - عندما يكتب ويرغب في انتشار كلماته عند جميع المستمعين العرب، فإنه يكتب بتلك اللغة البيضاء التي يبتعد فيها عن محلية الكلمات إلى كلمات يفهمها المستمع العربي على اختلاف لهجاته، ومتى كتب بلهجة محلية أو بكلمات يصعب فهمها من الغير فإنه لا يضمن الانتشار قطعا عند الشريحة الأكبر للمستمعين.
حتى في الفصيح من الشعر والكلام هناك لغة بسيطة رغم فصاحتها، بعيدة عن استخدام الموحش من اللفظ أو التقعر في الكلام، وهي الأكثر انتشاراً قطعاً وأكثر متعة للسامع وتأثيراً في وجدانه.
في الاعلام أيضاً هناك إعلام أبيض، والبياض هنا لا يعتمد على المفردة المستخدمة أو اللغة كما هو الحال في الكلام، بل على طبيعة وطريقة عرض الخبر وتحليله، الإعلام الأبيض هو الإعلام الذي تستطيع من خلاله مخاطبة كل المتابعين، ويستطيع كل هؤلاء أيضاً متابعتنا والاستماع إلينا، هو ذاك الإعلام الذي يلبس ثوب المهنية والوسطية، هو الذي يبتعد عن التطرف في المواقف وعن استخدام العنف اللفظي أو العنف في طرح المواقف.
نحن نعلم أنه لا يوجد في العالم كله أي مؤسسة إعلامية ليس لها أجندة تريد خدمتها، فكل مؤسسة إعلامية لا بد أن يكون لها أجندة وأهداف تريد ايصالها، نقل الخبر المجرد والمؤسسة المجردة من أي هدف هذا وهم مزروع في ذهن المتابعين لكنه غير متوافر اطلاقا.
إن النجاح في الإعلام أن تكون مرتدياً ثوب المهنية والوسطية وأن تحترم أصولها، أن يكون خطابك للجميع من دون استثناء، ومن خلال ذلك تستطيع خدمة أجندتك التي تريد، أن تبتعد عن العنف اللفظي في تحليل الخبر.
في اعلامنا العربي نحن لا نجيد هذه المعادلة ولا نستطيع تطبيقها مع كثرة محاولاتنا، لا نستطيع فهم أو وجود أجندة إعلامية لا يعني أبداً نزع ثوب المهنية والوسطية، ولا يعني عدم احترام أصولها، كما أننا لا نعي أن ارتداء هذا الثوب لا يعني أبدا منعنا من خدمة «الأجندات»، هذا القصور في فهم هذه المعادلة هو الذي أدى إلى فشل كل محاولاتنا الإعلامية الإقليمية عن أن تكون مصدر ثقة للمواطن العربي، ومن ثم فشلها في التأثير عليه باستثناء بعض المحاولات التي أجادت العزف على بعض أوتار «الثورية» التي تطرب وجدان المواطن العربي وتستهويه، أياً كانت نتائجها حتى مع عدم الثقة بخبرها.
الإعلام أياً كانت وسيلته لا يؤدي مهمته ولا يحقق هدفه إلا إن كان مصدر ثقة أولاً، ثم هناك عوامل أخرى بلا شك لاحقة على الثقة، فإن لم يكن... ومهما توافرت له العوامل الأخرى ومهما تم الانفاق عليه فلن يؤتي ثماره أبداً، إن خسر ثقة المتلقي بالمهنية والوسطية حتى لو كانتا ثوباً يُلبس.
@lawyermodalsbti