بدا لبنان، القابع في ممر الفيلة وسط الجغرافيا اللاهبة في منطقة تترنح فوق فوهة حرب مؤجلة، وكأنه وجهاً لوجه مع حرب لا تقل ضراوة اسمها المأزق المالي – الاقتصادي الخطر والآخذ بالتورم على وقع فوضى سياسية – دستورية تخفت حيناً وتطفو أحياناً لكنها مرشحة للاستمرار كلما لاح استحقاق في البلاد.
ولم يغادر لبنان قلقه المتعاظم على الواقع المالي – الاقتصادي المأزوم غداة «ليلة القبض» على تصنيفه الائتماني عبر تقريرين لـ«ستاندر اند بورز» و«فيتش» صدرا خارج دوام العمل وتحت جنح الظلام تفادياً لتداعيات سلبية على سوق السندات، ولإتاحة الوقت أمام الحكومة اللبنانية لتأكيد التزاماتها الإصلاحية.
وشكلت خلاصة التقريرين في تزامنهما ما يشبه الإطمئنان غير المطمئن بعدما تراجعت «ستاندر اند بورز» عن نظرتها البالغة السلبية إثر جهود حثيثة بذلها لبنان، فأبقت على تصنيفه القائم «-B» وإمهاله ستة أشهر لإثبات جدارة إجراءاته، أما المفاجأة التي لم تكن مفاجئة فجاءت في تقرير «فيتش» الذي خفض تصنيفه من «-B» إلى «C.C.C».
ورغم أن لبنان نجح في احتواء الصدمة عبر تحوط استباقي أملى التكيف مع التداعيات المرتقبة للتقريرين قبل صدورهما، فإن المفارقة البالغة الخطورة تكمن في أنه أصبح يحتل مرتبة الـ«C.C.C» في تقويم لمؤسستين دوليتين من ثلاث تعنى بالتصنيف الائتماني، أي من «موديز» التي اصدرت تقريرها في يونيو الماضي ومن «فيتش» ليل الجمعة – السبت.
والـ«C.C.C»، في نظر الخبراء الإقتصاديين هو الاسم الحركي للدولة المصابة باحتمال التعثر في سداد ديونها، الأمر الذي يجعل لبنان أمام اختبار لا يستهان به خلال الستة أشهر الممنوحة كفترة سماح من «ستاندر اند بورز»، وإلا تحول «دولة خردة»، خصوصاً أن هذه المؤسسة سبق أن صنفت لبنان في دائرة الـ«C.C.C»، لأشهر عدة في العام 2008 قبل أن تعيده إلى «-B».
ولم تفاجأ الحكومة اللبنانية بالتصنيفين، وقال وزير المال علي حسن خليل إن الأمر «يعكس الحقيقة التي نعرفها ونعمل على معالجتها»، معرباً عن ثقته بالقدرة على الخروج من الأزمة «مهما كانت عناوين التصنيف»، وسط تقديرات بأن لبنان سيطلق محركاته في اتجاه إعداد موازنة الـ2020 وإنجازها في موعدها، وتضمينها إجراءات إصلاحية تلح عليها مؤسسات التصنيف.
وإزاء هذا الواقع الخطر الذي عكسه التقريران رأت دوائر خبيرة في الشأنين السياسي والمالي أن عملية الإنقاذ المفترضة لم تعد تقتصر على جوانب ذات صلة بالإجراءات المالية والاقتصادية بقدر ما هي تتطلب سلوكاً سياسياً مغايراً في إدارة واحدة من أصعب المراحل التي تواجه لبنان ومستقبله.
وفي تقدير هذه الدوائر أن الواقع الكارثي الذي بلغه لبنان على المستويين الإقتصادي – المالي مرده في جانب أساسي إلى الخيار الذي تعتمده قوى وازنة في تعطيل آلة الحكم والمؤسسات كلما اقتضت مصالحها السياسية، الأمر الذي شكل حرب استنزاف لقدرات لبنان وأعاده إلى الخلف.
وكشفت هذه الدوائر عن أن خبراء في الاقتصاد والمال يعدون دراسة عن الأثر المفجع الذي تركته سياسة التعطيل.. من احتلال وسط بيروت لعام ونصف وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية لعامين ونصف والحاجة لتشكيل الحكومات لـ11 شهراً و9 أشهر وما شابه.
وذكّرت الدوائر عينها بتعطيل الحكومة الحالية لـ 40 يوماً بسبب حادث أمني (البساتين – عاليه) وبلوغ المقايضات لتسيير عجلة المؤسسات مداها، وليس أدل على ذلك من بقاء حاكم مصرف لبنان من دون نوابه الأربعة منذ أشهر لخلاف على تعيين بدائل أو التمديد لهم في عز الواقع المالي المأسوي.
وأخذت تلك الدوائر على قوى السلطة عدم تقديرها للمخاطر التي تجعل المجتمع الدولي ومؤسساته على قدر كبير من الحذر في مقاربة الوقائع اللبنانية، من التلويح الدائم بأن لبنان مرشح للإنضمام إلى مواجهة يمكن ان تقع بين الولايات المتحدة وإيران، إلى العجز المتمادي عن حل مشكلات مزمنة كالكهرباء والنفايات، والمضي في الانخراط في صراعات على كعكة السلطة أو إثارة مشكلات ذات طابع سياسي – طائفي من شأنه هز الاستقرار في البلاد.
وسط هذه الإشارات المقلقة يوحي رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في «صيفيته» في قصر بيت الدين التاريخي وكأنه أجرى تعديلاً على مقارباته عبر إيلائه الأولوية المطلقة للواقع الاقتصادي – المالي بعد طي المواجهة السياسية الكبرى التي شهدتها البلاد إثر جعل حادثة البساتين محاولة لكسر الزعيم الدرزي وليد جنبلاط من «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل و«حزب الله».
ولم يكن أدل على هذا التبدل من الخطاب التصالحي الذي اعتمده الرئيس عون منذ وجوده في المقر الصيفي في بيت الدين وحضه على التمسك بالمصالحة التاريخية في الجبل والحرص على عدم هزها تحت وطأة أي خلاف سياسي.
والأكثر إثارة للانتباه في هذا السياق كان «الغداء العائلي» البالغ الدلالة، الذي أقامه عون على شرف جنبلاط (العائد من السفر) والذي جاء مع عقيلته ونجله النائب تيمور وعقيلته، مرحباً برئيس الجمهورية في الشوف (بيت الدين)، وهو اللقاء الأول الذي يجمعهما بعد صلحة البساتين في قصر بعبدا التي رعاها عون بين رئيس التقدمي والنائب طلال إرسلان في حضور رئيس البرلمان نبيه بري ورئيس الحكومة سعد الحريري.
غير أن المفاجأة التي شكلها غداء بيت الدين كانت في مشاركة الوزير باسيل (صهر الرئيس عون) وعقيلته، إضافة إلى كريمة الرئيس ميراي عون وزوجها، وهي اعتبرت حدثاً سياسياً كون لقاء جنبلاط وباسيل وجهاً لوجه يجري للمرة الأولى بعدما كان الأخير السبب السياسي لحادثة البساتين التي وقعت إثر انفجار احتقان شعبي خلال جولة كان يقوم بها رئيس «التيار الحر» في منطقة عاليه وسبقتها مواقف من باسيل اعتبرت استفزازية.
وحاذر جنبلاط بعد الغداء الكلام عن مصارحة مع باسيل أو مصالحة، مشيراً إلى أن اللقاء معه كان ودياً وتناول أحاديث عن الأوضاع والأسفار، لكنه كشف عن ان الرئيس عون، الذي يولي الوضع المالي – الاقتصادي أولوية قصوى في ضوء ما صدر من تصنيفات للبنان، يعتزم توجيه دعوة لجميع المسؤولين في البلاد للاجتماع من أجل تحمل مسؤولياتهم، خصوصاً في ملاقاة موازنة الـ2020 التي ينبغي ان تتضمن إجراءات لإنقاذ البلاد حتى ولو لم تكن شعبية.
ووجه جنبلاط دعوة للرئيس عون لزيارة المختارة (دارته في الشوف) وترك له خيار ان تكون عائلية أو سياسية أو شعبية، مشيراً رداً على سؤال، إلى أن باسيل مرحب به أيضاً والجميع.