هل يبقى لبنان مقاوماً لـ«المقاومة»؟

1 يناير 1970 10:06 ص

انسحبت القوات السورية من أرض لبنان في السادس والعشرين من أبريل 2005. أخرج السوريون دمّ رفيق الحريري ولا شيء آخر غير ذلك. كان ذلك بعد شهرين واثني عشر يوماً على اغتيال الرجل الذي يرمز الى المحاولة اليتيمة، منذ العام 1975، لإعادة الحياة الى لبنان وإيجاد مكان له على خريطة الشرق الأوسط.
هل أخرج اللبنانيون السوري من لبنان كي يحلّ مكانه الإيراني؟ يطرح هذا السؤال نفسه بحدّة في العام 2019 بعدما تبيّن أن هناك محاولة إيرانية جدّية لاستكمال وضع اليد على لبنان الذي يكتشف المواطن العادي فيه أنّه يتجه أكثر فأكثر إلى أن يصبح جزءاً لا يتجزّأ من «محور المانعة» المضحك - المبكي. هذا المحور ليس في واقع الحال سوى غطاء تستخدمه إيران من أجل المضي في مشروعها التوسّعي. إنّه مشروع الذي لا أفق له خصوصاً أنّه قائم على إثارة الغرائز المذهبية.
دفع رفيق الحريري غالياً ثمن تلك المحاولة التي بدأت بإعادة إعمار وسط بيروت بصفة كونه قلب لبنان. من السهل على الذين لا يريدون فهم المعادلة الجديدة في لبنان تجاهل أن البلد ما كانت لتقوم له أي قيامة، ولو لبضع سنوات بين 1992 و 2005، لولا رفيق الحريري وهوسه بلبنان.
يعتبر ما نشهده حالياً في لبنان، في ذكرى مرور أربعة عشر عاماً على انسحاب السوريين، نتيجة طبيعية لسلسلة الانقلابات التي تعرّض لها البلد من أجل إحلال الوصاية الإيرانية مكان الوصاية السورية - الإيرانية. ليس سرّاً أن الأمين العام لـ «حزب الله» الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، عناصره لبنانية، كان أوّل من اطلق شعار «شكراً سورية». كان ذلك في الثامن من مارس 2005، لم يكن مضى شهر على اغتيال رفيق الحريري عندما دعا «حزب الله» الى تظاهرة كبيرة في وسط بيروت دعماً للنظام السوري.
خطاب حسن نصرالله في المتظاهرين، كان عنوانه «شكراً سورية». هل كان يريد بالفعل بقاء الجيش السوري في لبنان أم كان يشكر بشّار الأسد على توفيره كلّ الأسباب التي ستؤدي الى خروجه العسكري والأمني في لبنان كي تتمكن إيران من ملء الفراغ؟
ردّ اللبنانيون على الأمين العام لـ«حزب الله» بأكبر تظاهرة شهدها البلد منذ استقلاله في يوم الرابع عشر من مارس 2005. أدت تلك التظاهرة الى جلاء القوات السورية وأدّت إلى إطلاق سمير جعجع من سجنه وعودة ميشال عون من منفاه الباريسي. كانت تلك لحظة تاريخية يظهر اليوم أنّها ضاعت، كما أنّها لن تتكرّر.
الأكيد ـن اللبنانيين يتحملون مسؤولية إضاعة تلك اللحظة في وقت كان الاعتقاد السائد أن النظام السوري وحده وراء جريمة اغتيال رفيق الحريري. تبيّن لاحقاً، استناداً إلى القرار الاتهامي للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أن الجريمة عملية مشتركة لا يبدو «حزب الله» بعيداً عنها.
من سلسلة الاغتيالات التي استهدفت اللبنانيين الشرفاء، من سمير قصير إلى محمّد شطح، وصولاً إلى حرب صيف 2006 ثم الاعتصام في وسط بيروت وغزوة العاصمة والجبل الدرزي، في مايو 2008، بقي الهدف واحداً. هذا الهدف هو بكلّ بساطة الوصول الى مرحلة يتوقّف فيها لبنان عن مقاومة ما يسمّى «المقاومة»، وذلك عبر تشريع سلاح «حزب الله».
يشكّل موضوع سلاح «حزب الله» المطلوب إيجاد شرعية له، على طريقة تبييض الأموال، تتويجاً لسلسلة الانقلابات التي حصلت في لبنان ابتداء من الرابع عشر من مارس 2005 وما تلاه من خروج للجيش السوري من لبنان. لولا تلك الانقلابات لما وصل لبنان الى مرحلة يتحدث فيها وزير الدفاع من الجنوب عن الحاجة الى استراتيجية دفاعية بعد زوال الأخطار الإسرائيلية. معنى هذا الكلام أن سلاح «حزب الله»، أي سلاح إيران في لبنان، باقٍ إلى الأبد.
من وجهة نظر هذا الوزير، لن يكون هناك يوم لا يعود فيه سلاح شرعي واحد في لبنان هو سلاح الجيش اللبناني ما دامت الأخطار الإسرائيلية موجودة. من يحدّد متى لن تعود هناك أخطار إسرائيلية ما دامت إسرائيل قائمة؟
لم يجد الوزير الذي ينتمي إلى فئة معيّنة لا تؤمن بالكيان اللبناني من يردّ عليه في هذه الظروف الحرجة التي يمرّ بها البلد. هذا أمر مؤسف يدلّ على فقدان السياسيين اللبنانيين، خصوصاً المسيحيين منهم الحس بالمسؤولية، لا يشبه فقدان الحس بالمسؤولية في 2019، سوى ذلك المرض الذي عانى منه الزعماء المسيحيون، باستثناء ريمون اده، في العام 1969، أي قبل خمسين عاما بالتمام والكمال. اسم هذا المرض هو رئاسة الجمهورية. حال ذلك المرض دون تشكيل جبهة مسيحية موحّدة للتصدي لاتفاق القاهرة في وقت كان هناك خوف لدى كثير من الزعماء المسلمين من هذا النوع من الاتفاقات التي تشير الى تخلّي الدولة اللبنانية عن سيادتها على جزء من أراضيها، تماماً كما هي الحال الآن مع سلاح «حزب الله» وكلّ ما يرمز اليه.
لا شكّ ان الزعماء المسلمين يتحمّلون بدورهم مسؤولية كبرى عن الوصول إلى اتفاق القاهرة، خصوصاً عندما قرّر رئيس الوزراء رشيد كرامي الاعتكاف، لكنّ مسؤولية الزعماء المسيحيين الذين وافقوا على الاتفاق هي في المستوى نفسه.
أسوأ ما في الأمر أن الزعماء المسيحيين كانوا يعرفون تماماً ما سيترتب على تشريع السلاح الفلسطيني في لبنان، لكنّ كرسي رئاسة الجمهورية جعلهم يقدمون على خطوة ستترتب عليها نتائج في غاية الخطورة. لا تزال تفاعلات هذه الخطوة مستمرّة الى يومنا هذا بعدما حلّ سلاح «حزب الله» مكان السلاح الفلسطيني. هذا السلاح الذي يتدخّل في سورية ويخوض، إلى جانب النظام، حرباً على الشعب السوري، يريد ان يفرض على اللبنانيين ما هو أسوأ من السلاح الفلسطيني. ظهر ذلك جليّاً بعد قانون الانتخابات الأخير الذي تلا انتخاب رئيس للجمهورية هو قبل كلّ شيء خيار «حزب الله».
مرّ نصف قرن على اتفاق القاهرة. ما زال لبنان يقاوم. لكنّ الواضح أن مقاومة اللبنانيين لـ«المقاومة» تشارف على نهايتها في ظلّ غياب عربي عن البلد وغياب أي دعم حقيقي لمن لايزال يقول لا للوصاية الإيرانية. هل من أمل للبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية لم يشهد يوما مثيلاً لها؟ الجواب بكلّ بساطة ان الخوف على لبنان يأتي من العجز عن حماية نفسه أمام العاصفة التي تبدو المنطقة مقبلة عليها. ستغيّر هذه العاصفة الكثير في الشرق الأوسط، بما في ذلك قدرة إيران على الاستمرار في مشروعها التوسّعي.
هل لا يزال لبنان قادراً على إيجاد طريقة للملمة أوضاعه الداخلية... أم أن أوان ذلك فات، خصوصاً أن مرض كرسي رئاسة الجمهورية ما زال ينخر جسد زعمائه من المسيحيين خصوصا. هؤلاء لم يفهموا، في معظمهم، الى الآن، معنى خروج القوات السورية من لبنان ولماذا لا يزال عليهم تفويت الفرصة على إيران كي لا تكون صاحبة الوصايّة على البلد...