عكف المفكر التونسي الأستاذ الدكتور مختار الفجاري، على كتابه (الفكر العربي الإسلامي - من تأويلية المعنى إلى تأويلية الفهم)، بصبر وأناة، وشحذ له كل قواه العقلية، ليمخر في عباب ظلماته بين ثورة هذا الفكر وعقلانيته، وبين هوسه وهدوئه، وبين شطحاته واعتداله، حاول المفكر التونسي الفجاري، أن ينصهر في بوتقة هذا الفكر الذي هزّ العالم منذ عصر صدر الإسلام إلى العصر الأموي ثم العصر العباسي (عصر النهضة والازدهار)، ثم العصر الأندلسي والفاطمي (عصر الإبداع والترجمة).
إن أول مسألة يتعرض لها الفجاري هي مسألة (المفكر واللامفكر)، حيث يقول: «فمفهوم اللامفكر فيه (داخل رؤية تاريخ أنظمة الفكر) يعني أن المؤلف حين يفكر في شيء بعينه ويسجله حاضرا في الكتابة هو في الوقت نفسه ينسى أن يفكر في أشياء أخرى تكون بمثابة نص غائب مواز للنص الحاضر وهكذا يدرك القارئ هذا اللامفكر فيه». أ. هـ ص 4.
ويردف قائلاً: «فلم يعد لقول ديكارت... أنا أفكر، إذن، أنا موجود، أي معنى؛ لأن الوجود أصبح اليوم حيث اللامفكر فيه. أو بالأحرى كما قال جاك لاكان أنا أوجد حيث لا أفكر وأفكر حيث لا أوجد». أ.هـ ص4.
هذه من القضايا الشائكة في كتاب الفجاري، أو قل ذات رؤية ضبابية، من الواضح بأن هناك فكرة ما في ذهنه حول هذه القضية أراد أن يطرحها فاستشعر بعسرها على القارئ، لذا تركها معلقة أو بين بين، ولكنني حينما استرسلت في قراءة كتاب الفجاري وجدت فكرة لعلها تفك رموز هذه المسألة وتقرب فهمها للقارئ؛ ففي ص 146و147، ينقل لنا الفجاري حوارا بين المحاسبي وأستاذه الجنيد حيث يقول:
- المحاسبي: كيف أستعين على فهم معاني ما أتلو أو يتلى عليّ؟
- الجنيد: بإحضار عقلك، فبذلك تفهم وتذكر، ألم تسمعه عز وجل يقول: «إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» سورة: ق، آية 37.
- المحاسبي: فكيف أحضر عقلي حتى يكون شاهدا لا يغيب عن فهم كلام ربي جل وتعالى؟
- الجنيد: بأن تجمع همّك حتى لا يكون فهمك متفرّقا في شيء غير طلب الفهم لكلام مولاك.
- المحاسبي: وكيف أجمع همّي حتى لا يتفرق في شيء سوى ذلك؟
- الجنيد: تمنع عقلك من النظر في شيء سوى طلب فهم كتاب ربك جل وتعالى.
- المحاسبي: وكيف أمنع عقلي؟
- الجنيد: بألا تشغل جوارحك بما لا يشغل به عقلك، وأن تستعمل كل جارحة بما يعينك على الفهم، كنظرك في المصحف واستماعك إلى تلاوتك أو تلاوة غيرك، وتمنع عقلك من كل فكر وذكر... لأنك إذ لم تشغل جوارحك بشيء غير ذلك ومُنع عقلك عن النظر والفكر في غير ذلك اجتمع همّك وحضر، وإذا حضر عقلك زكا ذهنك وإذا زكا ذهنك قويت على طلب الفهم واستبان فيه اليقين وصفا فيه الذكر وقوي فيه الفكر.
وللحديث بقية.
[email protected]