د. محمد حلمي عبد الوهاب / في بؤس التعاطي مع الأزمة المالية العالمية
1 يناير 1970
06:54 ص
ما احتاجَ بعض الملاحظين العرب إلى مزيدٍ من الوقت، أو فُسْحَةٍ من الأمل.، حتى أعلنوا على الملأ انتهاءَ الرأسمالية. الغربية. وزوالهَا إلى الأبدْ، وما احتاجَ هؤلاء الملاحظون أيضاً مزيداً من الوقت. حتى صبوا جَامَّ غضب.همْ وسَخَط.همْ على الليبرالية. والرأسمالية. وجميع. ما هو مقبل من الغرب «المُتوّح.ش».
وإذا كان من الطبيعي أن تتفاوتَ وجهات النظر حولَ مدى تأثُر الاقتصاديات العربية. بالأزمة العالمية، فإنه من المدهش حقيقةً أن تتباينَ الرؤى حول تشخيص. الأزمة. واستجْلاء. أسْبَاب.هَا الحقيقية. وبدلاً من وضْع.هَا في سياقها الخاص بقضية. القروض. العقارية.، ثُمَّ تداعيات. انتشار.هَا وامتدادَات.هَا المكانيَّة. والزمانيّ.ة. ل.تُمْس.كَ في النهاية. بتلاليب. قطاعَاتٍ أُخرى مالية، قفزَ الخبراءُ والمحللونَ العرب باستنتاجات.هم الأوليَّة ليروا في الأزمة نهايةً حتميّة لنظام الغرب وسياساته المالية، وكأن في ذلك ضَرْبٌ من العقاب الإلهيّ في حق. مَنْ أشاعوا الفسادَ في الأرض.
وفي سياق مُشَابهٍ، بدلاً من أن يقْرأَ بعض المحللين العرب ض.مْنَ تضاعيف. الأزمة إفرازاً طبيعياً يمك.نُ تجاوزُه لاقتصادٍ رأسماليٍّ عملاقٍ يمُر بحالة. عَطَبٍ عابرة، لم يفُتْ هؤلاء أن يستحضروا، كُل على شاكلته، منظومةَ انتماءات.ه.مُ العقديّةَ والأيديولوجيةَ ممَّا أثّرَ سلباً على أسلوب. قراءاتهم للأزمة وسياقاتها الآنيَّة. والمستقبليَّة. وكم يتعجب المرءُ حقاً من وتيرة. السرعة اللافتة في تقييم الأزمة وإصدار. الأحكام. القاطعة. بشأنها، وما رافَقَ ذلك من تحليلٍ مُتعجّلٍ حول امتداداتها وثنايا لُعبة. الكراسي الخفيَّة. في صعود وهبوط مؤشرات سلة العملات المالية... وغير ذلك.
وحتى عندما لاحت في الأُفق إجراءات التدخل التي قامت بها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية من أجل. مُداواة تداعيات الأزمة، انطلقت الأقلامُ العربيةُ تتهمُ نموذجها الليبرالي بالفشل مهلّلةً لعودة أيديولوجيا التأميم مرة أخرى. فيما رأت فئة ثانية في أيلولَ الأسودَ مؤشراً مهمّاً يُؤذ.نُ بـ «خراب مالطا»، كما يُقال، أو بنهاية الغرب انطلاقاً من الإيمان بنظرية السقوط المريح، والقول بأن النظامَ الليبرالي يحْم.لُ في داخله جرثومةَ فنائه وأنه سيأتي على نفسه إن عاجلاً أو آجلاً.
كل هذا يُقال على الرغم. من أنَّ النموذجَ ذاته لا يزالُ يحْظَى بقدرة تدافعيَّةٍ داخليَّةٍ تجعلُه الأكْثَرَ كفاءةً على تصحيح مساره. والصمود. في وجه أزماته، وهو مالم يتوافر لأي نموذج أيديولوجيٍّ من قبل، فضلاً عن أنَّ منظومةَ القيم الليبرالية لا تزالُ الأكثرَ جذْباً للكثيرين حول العالم، خصوصاً في ظل. موجة. العوْلَمة. والأنْسَنة. التي تُصاح.بُها منذُ الدخول في الألفية الثالثة.
ليس غريباً، والحَالُ هَذ.ه.، أن يُفاخرَ الرئيسُ الإيرانيُّ أحمدي نجاد في خطاب له على هامش الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، قلب. العاصمة الاقتصادية. العالمية، بأن: «الامبرياليةَ الأميركيةَ أشْرَفتْ على نهايتها»، ثم ما لبثَ أن تبعتْه في ذلك قُوى الرفضّ. والمُمَانعة بطول العالم العربيّ وعَرْض.ه.
لكن لسوء حظ «الشامتين» كافةً لا تزالُ الولاياتُ المتحدةُ تسْتحو.ذُ على ما يقْرُب من 50 في المئة من حجم التجارة الدولية (تُصدّ.ر وحدها شهرياً إلى العالم أكثر من 163 مليار دولار)، فضلاً عن أنها تحتل المركز الأول في حجم التدفقات الاستثمارية حول العالم، ناهيك عن أن لديها نظاما سياسيا واقتصاديّا متينا ومتماسكا قاد.را على احتواء واستيعاب أزماته السياسية، والاقتصادية معاً.
وإلى جانب هؤلاء وأولئك، ثمّة فئةُ أخرى اختلط عليها الأمر فأخذت الليبرالية، كأيديولوجيا ومدرسة فكرية، بجريرة. السياسات. الاقتصادية الخاطئة، والتي يمكن أن تقع في أكثر نُظُم. العالم. اشتراكيّةً. في حين سعى البعضُ الآخرُ إلى استحضار الماركسية من قبرها، بالدفاع عن التدخل الحكومي من أجل وضع. حدٍّ لسطوة. رجال. الأعمال. على الاقتصاد ووقف توحشهم. ويفوتُ هؤلاء جميعاً أنَّ النظامَ الأميركي، شأنُه في ذلكَ شَأنُ كثيرٍ من النُظُم. الاقتصاديَّة. الغربيَّة.، قد طلّق منذ أمدٍ بعيدٍ أُنموذَجَ الرأسماليَّة. النقية الذي يُحرّمُ تدخُل الدولة في شؤون الاقتصاد، في مقابل الاعتماد على أنموذج الرأسماليَّة. المرنة، ذلك الذي يُتيحُ لها فُرصةَ الرقابة الإجرائية عن بُعدٍ من أجل. حماية نظامها المالي استناداً إلى القاعدة الاقتصادية المعروفة بـ «الأيدي الخفية».
كما يفوتهم أيضاً، أن التدخل الذي وقع خلال الأسابيع القليلة الماضية لم يتعدَّ حاج.زَ القطاع النقدي ليصلَ إلى ما يُسمى بالاقتصاد الحقيقي مُمثلاً في قطاعات. الإنتاج. والصناعة، وأن ما فعلته الإدارة الأميركية كان مجردَ تصْحيحٍ لأوضاعٍ استثنائية، وليس تدخلاً بالمعنى الماركسيّ للكلمة.
والواقع أن مشكلة الشامتين في الأزمة الأميركية لا تقتصرُ فقط على فقر. حُجَج.هم وتستّرهم المعرفيّ خلف نظريات ولّى زمانها وانتهت صلاحيتُها، فضلاً عن إفلاسهم في تقديم نموذج بديل بإمكانه أن يُنهي من هيمنة النموذج الغربي، وإنما تتعدى ذلك إلى الخلط الفجّ بين النموذج وقياداته حيث تزداد وتيرة «الشماتة» بالقدر نفسه الذي تعلو فيه موجة الكراهية تجاه الرئيس الأميركي وحكومته الحاليّة.
وبطبيعة الحال، لم يَفُت. الإسلاميونَ أن يدخلوا بدورهم على الخط فأصدرَ «حزبُ التحرير الإسلاميّ» بياناً حول الأزمة بتاريخ 7 أكتوبر تحت عنوان «الرأسماليةُ الاقتصاديةُ تغرق في الانهيار بعد الاشتراكيّة. الشيوعية... والإسلامُ وحدَهُ هو العلاجُ الناج.عُ والواقي من الأزمات الاقتصادية».
وفي المحصلة، يمكن القول انَّ الأزمةَ الحاليّةَ ستنجلي لا محالة وستُجدّدُ الرأسماليَّةُ شبابها، تبعاً لطبيعتها غير الأيديولوجية. من جهة، والقائمة على مبدأ عدم الثبات والتحوّل من جهة ثانية. لكن ذلك لا ينفي بحال من الأحوال حاجةَ النظام الاقتصاديّ العالميّ إلى إعادة. النظر. في استراتجية. هيكل. التمويل العالمي من جديد في ظل دخوله حالياً مرحلة تغيّرٍ جذريٍّ عميقٍ قد تكون طويلة الأجل لكنها صحيَّة في كل الأحوال.
ويبقى القول ان النظام الرأسماليّ لا يزال يمتلك قدرةً فائقةً على تدبر أحواله وإدارة أزماته توفّرها له كميَّاتٌ هائلةٌ من القاعدة المادية المتمثلة في كل من الثروة، والنقد، والقوة العلمية التقنية؛ أي امتلاكه لثلاثية القوة ممثلة في المعرفة، والثروة، والسلطة. أمَّا ما يجولُ في أذهان. خبرائنا ومحللينا من هواجسَ رَغبويّةٍ في أفول الرأسمالية؛ فليس إلا محْضُ رغبات وتمنٍّ. ولو أنهم يفكرون تفكيرا إيجابياً لكان حريًّاً بهم ألا يتعجلوا في إصدار الأحكام والتوقعات، وأن يعملوا على إنهاء التوتر والهلع اللذين اجتاحا أسواق المال العربية بدلاً من المساهمة في زيادة وتيرتهما، وأن يسعوا إلى الحدّ. من تسربات. الأزمة إلى الأسواق العربية، وأن يشرعوا، قبل هذا وذاك، في التفكير في خياراتٍ استراتيجية تُخرج الاقتصادَ العربيّ من حال. التبعيَّة. شبه الكاملة إلى حال التقاطع الأفقي مع الاقتصاد الغربي.
د. محمد حلمي عبد الوهاب
أكاديمي مصري، وهذا المقال بالتعاون مع مشروع مصباح الحرية
www.misbahalhurriyya.org