من الجامعة الأميركية في بيروت إلى هارفارد، ومن هارفارد إلى بلاد الأرز مرة أخرى، كانت رحلة عميد كلية الطب نائب رئيس الجامعة للشؤون الطبية الدكتور محمد الصايغ، لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فرحلة الصايغ العلمية مليئة بالكفاح كما الإنجازات، على حد سواء.
الصايغ، العالم اللبناني الذي كان ترتيبه العاشر بين اخوانه، كان دائماً يرنو للمركز الأول، ولا يقبل بحلول وسط، فالإتقان صاحبه في كل محطات حياته. لم يكتف بالعودة من بلاد العم سام، بعد أن قضى فيها قرابة ربع قرن، وتبوأ في مؤسساتها مراكز مرموقة، من بينها رئاسته للجمعية الأميركية لزراعة الأعضاء، بل أصر على إعادة عقول أبناء وطنه، فكان له ما أراد، ونجح في إعادة 200 طبيب إلى الجامعة الأميركية في بيروت.
يقينه أن العالم العربي مهيأ لعودة عقوله المهاجرة، إنما ينقصه الاستثمار بالبشر، لذلك ينصح باستقطاب الموهوبين والقياديين كما تفعل أميركا مع المهاجرين.
بتواضع العلماء يقول الصايغ، الذي زار الكويت لتسلم جائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي «زوجتي أشطر مني»، ويدلل على ذلك بحصولها على جائزة المؤسسة قبله.
حياة حافلة يصعب طيها في كلمات. وفي ما يلي ومضات منها:
? ما سبب زيارتك للكويت؟
- فزت بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي في العلوم الطبيعية، عن مناعة زراعة الأعضاء والأبحاث المتعلقة بزرع الأعضاء، وهذا شرف كبير لي. والجائزة شرف كبير، والكويت عودتنا على الكرم، والزيارة لتسلم الجائزة، وعندما يأتي التقدير من مؤسسة مثل التقدم العلمي يكون أمراً جميلاً ومشرفاً.
? هل يمكن أن تعطينا فكرة عن تاريخك العلمي؟
- تخرجت في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1984، وسافرت بعدها لأميركا لأكمل دراساتي التخصصية، ومكثت في هارفارد قرابة 22 عاماً، وأصبحت بروفيسوراً في الجامعة ورئيس مركز زراعة الأعضاء فيها.
عدت عام 2009 إلى لبنان، كعميد كلية الطب في الجامعة الأميركية في بيروت، ونائب رئيس الجامعة للشؤون الصحية، وبدأنا مشروع (رؤية 2020) من أجل تطوير مستشفى الجامعة الأميركية، واستمررت أيضاً في عمل الأبحاث المتعلقة بزراعة الأعضاء.
? كيف تقيم زراعة الأعضاء في الكويت؟
الكويت من أولى الدول العربية التي بدأت زراعة الأعضاء، مع البروفيسور الراحل جورج أبونا منذ السبعينات، وكذلك السعودية ومصر ولبنان والعراق، ولكن الكويت كانت من الدول السباقة في هذا المجال.
المشكلة في عملية زراعة الأعضاء هي مدى توافر الأعضاء التي سيتم التبرع بها، لأنه ليس لدينا بنية تحتية قوية في الدول العربية، لإتمام ما يتعلق بزراعة الأعضاء المأخوذة من جثة، وبالتالي نعتمد على زراعة الأعضاء من الأحياء مثل الأقارب المتبرعين بالكلى، ولكن ثمة أعضاء لا نستطيع أخذها من الأحياء مثل القلب. الحالات التي نلجأ فيها لأخذ الأعضاء من غير الأحياء تكون حالات الموت السريري أو الدماغي، ولكن هذا الأمر يتطلب بنية أساسية معينة حتى يتم نقل العضو، فمثلاً إذا تحدثنا عن القلب لا بد أن تتم عملية النقل خلال فترة قصيرة، جداً بعد الموت السريري.
ونلاحظ أن نجاح نقل الكلى يكون أكثر، لأنه قائم على التبرع من متبرع حي، أما المشاكل التي تواجهنا في العالم العربي فتكون في أعضاء أخرى مثل القلب والكبد. وفي السعودية بدأ تحسين البنية التحتية في هذا الصدد، التي تعد نقطة ضعفنا في الوطن العربي.
وأعتقد أنه من الضروري أن نتعاون مع بعضنا في العالم العربي، لعمل منظومة وضوابط لكل زراعة الأعضاء، فمثلا إذا كان ثمة كبد في السعودية والمريض متواجد بالكويت، فعلينا تهيئة بنية أساسية لنقل هذا الكبد، وكلما اتسعت الرقعة الجغرافية، وجدنا مساحة متبرعين أكبر،خصوصاً في البلدان التي بها عدد كبير من السكان. السعي نحو توسيع جغرافية التبرع بالأعضاء هو الحل وهذا الأمر معمول به في الولايات المتحدة الأميركية، ومن شأنه تحسين توافر الأعضاء، وهذا التوسع سيؤثر إيجابيا على اعطاء فرصة الحياة للكثيرين، فمثلا من يحتاج لقلب ولا يجده سيموت إذا لم نجد له القلب، فتأمين المتبرع أهم مرحلة في عملية نقل الأعضاء.
? أنت من المهتمين بقضية العقول المهاجرة؟
- عندما رجعت لبلدي لبنان، كان أحد أهدافي ارجاع أكبر عدد من العلماء للجامعة الأميركية، وهذا مجهود نقوم به للعالم العربي كله، فبدلاً من أن يهاجر علماؤنا نعمل على استعادتهم مرة أخرى. ولكن الأمر يتطلب بنية تحتية ونظاما ماديا، ونجحنا في اعادة 200 طبيب تم ارجاعهم بالفعل. وعندما سألتهم لماذا عدتم فكان جوابهم: لأنك أنت رجعت، فأنت كنت في هارفارد ورئيسا للجمعية الأميركية لزراعة الأعضاء ثم عدت لبلدك. وفي هذا التوقيت كان لدينا رؤية لتطوير مستشفى الجامعة الأميركية، وبالتالي عندما عادوا كان الأمر بالنسبة لهم وكأنهم يعملون في أميركا.
? هل العالم العربي مهيأ لاستقبال عقوله المهاجرة؟
- نعم بالتأكيد، مشكلتنا أننا لم نستثمر في ارجاع هذه العقول. لك أن تتخيل أثر ارجاع 200 طبيب وما يمثله من أثر على أولادهم وأسرهم والمجتمع وإذا استطاع كل منا عمل شيء في محيطه، فسيكون لذلك نتائج ثورية، علينا التركيز في الاستثمار في البشر.
? ما الذي ينقص العالم العربي؟
- الاستثمار في البشر، كنت في مؤتمر في قطر من قرابة ثلاث سنوات، وطلبوا مني الحديث عن شعاري في الحياة، فأجبت: القيادة هي خلق القادة. وقلت لهم ان أي شخص موهوب يأتي الخليج اعطوه جنسية من أجل الاستثمار في البشر، كما تفعل أميركا عندما تعطي «غرين كارد» للمهاجرين إليها.
في أي مجتمع ثمة قرابة 5 أشخاص من كل مئة هم من يقودون، وهؤلاء من يجب أن نستثمر فيهم ولن توجد استفادة من شخص يأتي ليمكث سنتين أو ثلاثا ثم يغادر، ولكن الاستفادة الحقيقية تأتي من شخص يمكث لسنوات عديدة.
? ما أقرب الإنجازات العلمية لقلبك؟
- أنا تخصصي هو مناعة نقل الأعضاء، كيف نجعل الجسم يتقبل العضو ولا يرفضه، فجسم الإنسان يرفض أي شيء غريب عنه، حتى يقوم بمحاربة الفيروسات والبكتيريا.
جهاز المناعة في الجسم لا يعرف إذا كان ما أدخل له كلية أو قلب أو غيره ولكن ما يعرفه أنه غريب فتتم مهاجمته، وبالتالي علينا التحايل على المناعة لتقبل هذا العضو الجديد ولا تتم معاملته كشيء غريب.
وهذا المجال فاز بجائز نوبل فيه العالم اللبناني بيتر مدور، وكان من السباقين في العمل على تقبل المناعة لشيء غريب.
? كيف كان تأثير هذا العلم على قربك من الخالق؟
- التسامح يقتضي قبول الإنسان الآخر، حتى وان كان مختلفا في الدين والثقافة، فزوجتي مثلاً تعتنق ديانة مختلفة عني فهي مسيحية، والتسامح يساعدك على تربية الأولاد وتكوين علاقات، وهذا ما يدعو له ديننا. انظر للعالم العربي المليء بالأحزاب والاختلافات، وإذا لم نتسامح فسيذبح بعضنا البعض، ولذلك تعلّمت التسامح في المختبرات.
? هل هذه أول زيارة لك للكويت؟
- أتيت للكويت من قبل عندما فازت زوجتي بالجائزة.
? هل كنت تتوقع أن تصل لهذه المكانة العلمية؟
- لا لم أكن أتوقع ذلك، والدي لم يكن متعلما لكنه كان محباً للعلم ويؤمن به. أنا ترتيبي العاشر بين اخواني وأبي دعمني لأتعلم في أميركا.
? وما الذي دفعك نحو هذا التميز؟
- أهم شيء ساعدني أني كنت دائما حريصاً على التميز، فليس لديّ حلول وسط، إذا أردت أن أفعل شيئأ فأنا أفعله كما ينبغي، لا أذهب لاجتماع وأنا غير مهيأ، ولا أقوم بالفحص وأنا غير مستعد، أعتقد أن علينا أن نصنع حظنا.
مسيرة عالم
زوجتي أشطر مني
تحدّث الصايغ عن نصفه الحلو قائلاً «الجميل في الأمر أيضاً أن زوجتي هي الأخرى طبيبة، وسبقتني في الفوز بجائزة مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وأعتقد أنه لا توجد حالات كثيرة كتلك الحالة (فوز اثنين من الأسرة نفسها بتلك الجائزة)».
وأضاف «هي أيضاً طبيبة، كانت في هارفارد، وتخصصت في مجال التصلب اللويحي، الذي يؤثر على الأعصاب ويسبب شلل خلايا المناعة ويجعلها تهاجم نفسها. كنا طلاباً مع بعضنا البعض ودرسنا وتخرجنا في هارفارد، ولولا دعمها لما وصلت لهذه المكانة، هي أشطر وأنجح مني».
محمد الصايغ
? حصل على شهادة الدكتوراه في الطب بامتياز من الجامعة الأميركية في بيروت في العام 1984.
? عمل كرئيس المجلس الاستشاري العلمي لمؤسسة هارفارد - دبي وكعضو في مجلس أمنائها.
? حالياً عضوٌ في المجلس الاستشاري الدولي لجامعة حمد بن خليفة ومؤسسة قطر.
? عضو مجلس أمناء جامعة الشارقة، واللجنة التوجيهية للجمعية الدولية لمراكز الصحة الأكاديمية، والسفير الإقليمي الذي يستضيف المكتب الإقليمي لهذه اللجنة في منظومة مينا في المركز الطبي للجامعة الأميركية في بيروت.
? عيّن الصايغ كرئيس مشارك للجنة التوجيهية لشبكة التقبّل المناعي، وكعضو في اللجنة التنفيذية في المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة.
? في 2009، عاد إلى لبنان والجامعة الأميركية في بيروت كعميد رتبة رجا خوري لكلية الطب، ونائب الرئيس التنفيذي للطب والاستراتيجية العالمية.