د. دوغلاس ساوثغيت / السبل الناجعة لتفادي تكرار الأزمات الغذائية
1 يناير 1970
06:49 ص
تراجعت أسعار المواد الغذائية في الأشهر الأخيرة بعد أن وصلت إلى أعلى مستوياتها هذا العام. ومع ذاك، ما تزال الأمم المتحدة تحذر من أزمة غذاء يمكن أن تلقي بأكثر من مئة مليون فرد في براثن الفقر المدقع. فهل يجب أن يبقى الغذاء غالياً، علماً أن عدد البشر في تزايد مستمر، ونمو دخلهم الفردي يرفع من معدلات الاستهلاك الفردي؟ تؤكد «منظمة الغذاء والزراعة» التابعة للأمم المتحدة في آخر تقرير لها أن قرابة مليار فرد يعانون من نقص في التغذية. فهل يحتم عليهم قدرهم البقاء جائعين؟ كلا على الإطلاق.
خلال النصف الأخير من القرن العشرين، تنامى عرض المواد الغذائية على نحو أسرع من تنامي الطلب، فتراجعت الأسعار الحقيقية للحبوب بمعدل 75 في المئة. فهذا التراجع خفض التكاليف الغذائية علماً أن النظام الغذائي البشري يتكون من أكثر من 60 في المئة من الحبوب. أما في الآونة الأخيرة، فقد بدأ النمو السكاني بالتباطؤ، غير أن الطلب على المواد الغذائية مازال يشهد ارتفاعاً سريعاً نتيجة ارتفاع المداخيل. وبحلول عام 2050، ربما يتزايد الطلب على المواد الغذائية إلى ما بين 60 في المئة و100 في المئة. فإن لم نقم بزراعة وإنتاج المزيد من المواد الغذائية في الهكتار الواحد واستغلال المزيد من الأراضي، ستستمر الأسعار في الارتفاع.
إن الارتفاع الحالي للطلب على المواد الغذائية كان أمراً متوقعاً. بل انه، وكما قال جاك ديوف، المدير العام لـ «منظمة المواد الغذائية والزراعة» التابعة للأمم المتحدة: «كان متوقعاً، وقد تنبأنا به، وكان يمكن تفاديه... ولكن العالم فشل في ذلك». ولكن لا يجب إلقاء اللائمة على العالم، فاللوم يقع على الحكومات المنفردة، لا سيما في البلدان الأكثر فقراً، حيث أقامت الكثير من العوائق الضخمة بوجه حركة المواد الغذائية، مما أبقى الأسعار مرتفعة. حيث ان نسبة المبادلات التجارية في ما بين الدول الإفريقية لا تتجاوز 15 في المئة فقط من حجم مبادلاتها الكلية. أما التعرفة الجمركية في البلدان الفقيرة فمعدلاتها أعلى مما هي عليه في البلدان المتطورة. ففي جنوب الصحراء الافريقية، يبلغ معدل التعرفة على الواردات الزراعية 33 في المئة. كما أن التدابير التنظيمية المتفاقمة، والشريط الأحمر، والتأخيرات عند نقاط التفتيش الجمركي والفساد، تزيد الوضع سوءً. وبما أن هذه العوائق ترفع أيضاً تكاليف المدخلات، فإن المنتجين المحليين يصبحون غير قادرين على الاستجابة لارتفاع الطلب على المواد الغذائية.
فأوكرانيا هي خير مثال على بلد يمتلك إمكانات زراعية ضخمة ولكنها بقيت غير مستغلة. فإذا تحسنت جودة الزراعة وتم استعمال مدخلات أفضل، كالأسمدة، يمكن لأوكرانيا أن تضاعف محاصيلها الزراعية الحالية، وستصبح قادرة على تصدير من 50 إلى 80 مليون طن إضافي من الحبوب في العام الواحد. وهذه الكمية تكفي، من حيث القيمة الغذائية للحبوب، لإطعام 50 مليون شخص في الصين. أما في الهند، حيث معدل الاستهلاك أقل مما هو عليه في الصين، فهي تكفي لإطعام 100 مليون نسمة.
تعتبر الأراضي الأوكرانية أراضي خصبة قابلة للزراعة حيث كان هذا البلد من بين رواد العالم في ميدان الزراعة في منتصف ثمانيات القرن التاسع عشر. وأصبحت أوكرانيا بعد ذلك الممول الغذائي للاتحاد السوفياتي. وعلى الرغم من الإرث الشيوعي، فأوكرانيا مازالت بلداً مصدّراً للمواد الزراعية. ولكن التدخلات الحكومية وفرض نظام الحصص على الصادرات أبقى معدلات الأسعار المحلية منخفضة بشكل مصطنع، مما بدد محفزات وطموح المزارعين.
و الأرجنتين مثال مشابه لأوكرانيا من حيث إهدار وتبذير إمكاناته الزراعية. حيث ان زراعة 15 مليون هكتار، بدلاً من التسعة ملايين هكتار التي تزرع حالياً يمكن أن تنتج 30 مليون طن إضافي من الحبوب للتصدير كل عام. وبوسع هذا الرقم أن يغذي 30 مليون نسمة في الصين، أو 60 مليونا في الهند، لعام كامل. ولكن، هنا أيضاً، يتراجع الإنتاج بسبب الممارسات السياسية لإدارة الرئيسة كريستينا فيرناندز. هذه الأخيرة اتبعت نهج الحكومات السابقة مستخدمة المناورات التكتيكية المتوفرة لأجل إبقاء المواد الغذائية رخيصة مهما كانت التكاليف. ففي مارس الماضي، تمت زيادة ضرائب الصادرات على العديد من السلع الغذائية، فوصلت نسبة الضريبة على فول الصويا، وهو أهم منتوج موجه للتصدير، إلى 45 في المئة.
لقد تسببت عقود عدة من ممارسة مثل هذه السياسات في تقليص حجم الأراضي المزروعة منذ بداية ستينيات القرن العشرين. كما أن السياسات الاقتصادية الانعزالية الرامية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي أثبتت فشلها وخلقت مشاكل جمة لعديد من البلدان، لا سيما تلك التي لا تتوفر على إمكانات ضخمة كأوكرانيا أو الأرجنتين. كما أن نيجيريا، والسنغال، ومالاوي قد لهثت خلف سراب هذه السياسات، في حين أن العديد من بلدان جنوبي الصحراء الكبرى تفخر فعلاً بكونها «مكتفية ذاتياً». فكانت النتيجة انخفاضاً خطيراً للاستهلاك الغذائي الفردي.
في محاولاتها للإبقاء على أسعار المواد الغذائية رخيصة تفشل الحكومات في إدراك أن الصادرات المقيدة، والضرائب الزراعية تقلص من استثمار وإنتاج المزارعين. فالنتيجة هي ارتفاع شامل للأسعار.
لقد أدت ردود فعل الحكومات إزاء الأزمة الغذائية إلى نتائج عكسية: إذ قام أكثر من 30 بلداً بفرض قيود على الصادرات أو منعها كلياً، مما ساهم في تفاقم ارتفاع أسعار المواد الغذائية. وخلاصة القول فإن تحرير التجارة وتحرير المزارعين من القيود المفروضة عليهم من قبل السياسيين يبقى السبيل الأنجع لتحقيق مصلحة المنتجين، والمستهلكين في كل مكان.
د. دوغلاس ساوثغيت
أستاذ الاقتصاديات الزراعية والبيئية والتنمية في جامعة ولاية أوهايو. وهذا المقال برعاية مشروع مصباح الحرية
www.mibahalhurriyya.org