حيثما مشيت في المغرب ترى صورة خماسية الأبعاد وإن بنسب متفاوتة.
الأولى أن الديموقراطية الخارجة من رحم دستور 2011 هي فعل يومي في مختبرات التجربة الواقعية وليست شعارات تخديرية. تدرك القيادة السياسية المغربية وعلى رأسها الملك محمد السادس أن التحوّلات تحتاج إلى مناخات متقبلة تبدأ من الثقافة الفردية وتنتهي بالتراكم المجتمعي. فمن لا يتقبل المفاهيم الديموقراطية كفرد يصعب عليه التعايش الحضاري مع شريكه في المواطنة أو مع «الآخر» بصورة عامة. ولذلك كانت للبرامج السياسية والتثقيفية الدستورية أولوية، وكانت العملية الانتخابية امتحاناً نجحت فيه القيادة (مهما كانت نتائجها ومهما أفرزت من وصول هذا التيار أو ذاك إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية) كون الديموقراطية تصحح نفسها وكون الناخب المغربي يقيم تجربة من منحه التكليف لتمثيله فإن حقق ما وعد به أعاد انتخابه وإن أخلف وضع ورقة أخرى في صندوق الاقتراع.
الثانية أن حقوق المرأة خصوصاً وحقوق الإنسان عموما شهدت طفرات إيجابية غير مسبوقة. قوانين وقرارات وورش عمل ونقابات وهيئات ولجان ومنظمات... على مدار العام. وما تحقق في سنوات في هذه المجالات ما زال في أماكن أخرى يحتاج إلى عقود كي يتحقق.
الثالثة أن الحرب على التطرف خيضت بالسلاح المغربي لا بالسلاح الدولي، بمعنى أن أهل البلد أدرى بما فيه. ولا شك في أن الأمن في المغرب هو جزء من ثوابت الحكم لا تهاون حياله ولا تراجع عن اجتثاث جذوره. إنما اللافت في التجربة المغربية أن مواجهة التطرف لم تقتصر فقط على التصدي المسلح، أو الأمني – الاستخباراتي فحسب بل تعدتها إلى مجالات كثيرة بحثت في جذور المشكلة لمعالجة البيئات والمناخات الحاضنة للتطرف أيضاً. ولذلك كانت مراجعات المناهج الدراسية مستمرة، وإقرار القوانين الاجتماعية الحارسة لمفاهيم التسامح، واعتماد سياسات الانفتاح، واعتبار محاربة الفقر جزءاً من معركة محاربة التطرف... والأهم من ذلك كله توسيع نطاق المشاركة الشعبية في السلطة لإرساء مناخ سياسي تعددي حضاري يسمح بالتعبير تحت ضوء الشمس ولا يدفع إلى التعبئة في السراديب المظلمة.
الرابعة أن العمل على بناء بنى صناعية في مختلف مناطق المغرب يعني الاستثمار الصحيح في مستقبل المغاربة، فقد كان النسيجُ والصناعة الغذائية غالبين على هذا القطاع بل ربما شكلا نصف ناتجه، فيما تطور الأمر اليوم إلى تحديث الموانئ وتطويرها. وإقامة شركات ضخمة لتركيب وتصنيع السيارات في طنجة وغيرها، ومصانع إلكترونيات، وبرامج الطاقة الشمسية العملاقة التي بدأت دول أوروبية تسعى لعقد اتفاقات للاستفادة منها. طبعاً لن يحدث التحول بين يوم وليلة لكن بوادره بدأت مع تخفيض مطرد في نسب البطالة.
الخامسة أن تحولاً كبيراً ملموساً حصل في ما يتعلق بالبعد الأفريقي إذ إن المغرب اليوم يلعب دوراً في هذا المدار يفوق أي دور لأي دولة. كانت علاقات المغرب الأفريقية سياسية عامة من جهة ومقتصرة تقريباً على مجموعات الفرنكوفون من جهة أخرى. اليوم صارت مبنية على تبادل المصالح الاقتصادية والتجارية وعلى التوسع في اتجاه الدول خارج إطار الفرنكوفون. مصارف مغربية في مختلف هذه الدول. اتفاقات دائمة بين رجال الأعمال من الطرفين. اتفاقات تجارية ومالية. قوانين جديدة تسمح بفتح الأجواء والموانئ.
الصورة الخماسية ليست وردية بطبيعة الحال خصوصاً إذا أخذ في الاعتبار وضع الاقتصاد العالمي والتراجعات الحادة فيه. ويمكن الرجوع إلى خطب الملك التي يتحدث فيها بكل شفافية عن المشاكل التي يعانيها المغرب إذ يبدأ بالسلطة نفسها وبالبيروقراطية التي تحدّ من سرعة تنفيذ القرارات. يتحدث عن غياب المتابعة أحياناً وعن التجاوزات. يتناول مشكلة العشوائيات ليس بصفتها تجاوزاً للقانون وإنما بكونها شاهداً على ما هو أكثر من هذا التجاوز أي بالمناخ الاجتماعي - الاقتصادي الذي أوصل إليها.
المغرب، حكماً، قطع شوطاً كبيراً في عملية التحوّل، ولكل تحوّل ثمن وهو ما تحاول القيادة السياسية التخفيف منه ما أمكن للعبور إلى المرحلة الجديدة التي تليق بالمغرب كدولة ودور وإمكانات، وتليق بالمغاربة كشعب يقف على خطوط التماس التاريخية والحضارية والفكرية والثقافية مع أوروبا... ومع «الأطلسي» الفاصل بينه وبين عوالم أخرى تنتظر نتائج التحوّل في هذه البوابة الكبيرة من الضفة الأخرى.