يمثل كتاب «قراءة في كف الوطن»... نقلة نوعية في المنتج الأدبي الذي تفردت بإنجازه مؤلفته الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح... بعد سنوات طويلة قضتها في الإبداع والتميز.
وهو كتاب يشبه إلى حد بعيد الترانيم الإنسانية التي تتواصل مع سيرة الشاعرة الذاتية، أو ترديدات وأصداء انبعثت من صوت اعتاد الشعر، وتدرب على الكلمة المنتقاة، فحسنت مفرداته، وتوهجت نبراته، ليصل إلى مرحلة البوح الذي يعقبه استشراف لكل جوانب الحياة... وطنا وحبيبا وشعرا وإنسانية وأمكنة وأزمنة.
والكتاب صدر عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع... ويحمل في متنه نصوصا نثرية وشعرية قصيرة، تسرد من خلالها الشاعرة... سيرا جمة... لا تحدها أي حدود، ولا تعترضها أي حواجز، فهي سير منطلقة لا تتوقف ولا تتردد في أن تدخل إلى الممرات المعتمة لتنيرها، والمسالك الوعرة لتعبدها، والمسارات المتعرجة كي تجعلها مستقيمة.
وسعاد الصباح في هذا الكتاب ترسم بكلماتها الحلم، عبر محاور منتقاة من الحياة بدقة، وذلك وفق أطر شعرية ذات ملامح لا يمكن تحديد قسماتها إلا بعد قراءة كل نصوص الكتاب، وفي الوقت نفسه قد أعطت الشاعرة صورة شاملة عن ذلك الذي ستتحدث عنه: «يا أجمل الحروف في قصائدي/ يا وطن الأوطان».
وبعد قراءة الكتاب سنعرف ما الوطن الذي تقصده الشاعرة؟... إنها تقصد الكويت، ذلك الوطن الذي ترى فيها كل مباهج الحياة، ولأنه كذلك... فقد وضعت فيه كل شيء جميل تحبه الزوج الراحل... الشعر، السلام، الحرية، القراءة، الجمال: «القراءة بستان بحجم البحر»، فيما تقول: «على الكلمة أن تقاتل بالأنياب والأظافر/ حتى تقنع الإنسان العربي البائس بان عصر/ البنفسج قادم».
وتتمدد الرؤية في متن الكتاب لتصل إلى مرحلة الفلسفة، التي تدفع العقل إلى التفكير المنطقي في الأشياء المحيطة بنا: «الثقافة هي السؤال/ الإنسان الذي لا يسأل يأخذ شكل الحجر».
وتبدو المعاني التي تريد الشاعرة أن تكشفها عن واقعنا العربية كبيرة، وهي معان تتعلق بالثقافة التي لم تعد لها قيمتها، بسبب الكثير من العوامل مثل افتقاد الديموقراطية، والابتعاد عن الأدب والرتابة وغيرها: «ديموقراطية الثقافة التي نفتقدها تجعل كل/ كتاب متهما حتى تثبت براءته».
وفي حواراتها مع الذات... تبدو لنا المشاعر التي تبثها الصباح متواصلة مع الكثير من القيم الاجتماعية التي يكاد الواقع يفتقدها، منبهة وكاشفة عن الخلل الذي قد يحدث في الحياة لو استمر هذا الفقد، كما أنها تتحدث عن طفولتها والأمومة، وطموحاتها التي نجحت في تحقيقها.
ثم تركز على طفولتها: «ليس لديّ طفولة أولى وطفولة ثانية، طفولتي/ حالة مستمرة من الضحكة الأولى إلى الدمعة/ الأخيرة... من الصرخة الأولى للحصول على قطرة حليب من ثدي أمي... إلى الصرخة/ الأخيرة للحصــــول عـلــى قطــرة مــن مــاء الحرية/ في مجتمع الملح».
وتمجد الصباح الأم التي «هي الكتاب الذي يمنحنا الإيمان والثقة وراحة النفس»، وهي «المدرسة الأولى نتعلم منها جميعا ألوان المعرفة»، و«الغابة الخضراء الوحيدة التي يمكن أن ننام تحت أشجار حنانها».
وأفردت الشاعرة مساحة متميزة من كتابها لزوجها الراحل الشيخ عبد الله المبارك- رحمه الله- لتقول: «أحبَّ زوجي وطنه حبا صوفيا، جعل من/ كلامه عنه... قصــائد حـب»... وتستمر في بث مشاعرها الصادقة المخلصة: «سلاما يا جبلا من الكبرياء.../ سلاما يا أيها الرجل الذي اختصر العالم».
وتصف الشاعرة زوجها الحبيب بأنه «التفت إلى أسرته وبنى في بيته وطنا جميلا» ، وأن «بصماتـه لا تـزال واضحة في سماء الكويـت»، وأنه «ســيد هذا العالـم».
ثم تحدثت الشاعرة عن الصحافة والحرية والشعوب والكتابة والديموقراطية، والإنسان العربي، كما تطرقت في وصفهــا الشاعــري إلى فلسفة الحزن والفرح والحب الذي هو «بمفهــومه الواسع كلمــة ساميــة ومظلــة الحنــان». وفــــي ســياق آخـــر من الكتاب تحدثت الصباح عن الشعر والشاعر: «على الشاعر أن يوحد ضربات قلبه مع/ ضربات قلب الجمهور حتى يصبح الشاعر/ وجمهوره قطعة موسيقية واحدة»، كاشفة أن الشعر هوايتها التي رافقتها وشمس هذه الدنيا وقلبها، وأن «الحياة أجمل وأنبل بالشعر»، وهو «أقدم الاكتشافات لتحرير الإنسان/ والدفاع عنه».
وللكويت حديث... أطلت من شرفته الشاعرة لتقول ما يعتمل في نفسها من مشاعر: «الكويت وردة البحر المعرشة على أضلاع القلب»، و«الوطن جعل من قلبه مزارا لأولاده الذين أدمنوا عشقه».
وفي «حقيبة سفر»... تواصلت الشاعرة عبر أسفارها الواقعية والخيالية في التاريخ والحضارة والزمان والمكان، ثم استراحة الصباح بعد سفرها على «مرافئ» عدة حكت عندها أحلامها وامتدحت جمهورها الذي أحبها شاعرة عربية متميزة، وأكدت في محطة أخرى أن «المرأة وطن»، وقرأت لنا ما يعبر عنه «ضوء نجمة بعيدة». هكذا أخذتنا الشاعرة في رحلة ملؤها التفاؤل والحلم إلى العديد من الأماكن والأزمنة، كي تبوح بما في خاطرها من أفكار، بلغة شاعريــة، وبمفــردات متوهجــة بالجاذبية، والجمال، من خلال «قراءة في كف الوطن».