تُنشر في الصحف والمُجلّات لائحة تضمُ عناوين الكتب الموصية بقراءتها مرفقة بمديح للشخصيات العامة وما قاله هؤلاء عن محتوى الكتاب وما أعجبهم في الأُسلوب، مع التنويه بأوجه الفائدة من قراءة الكتاب على غرار ما يُعلنُ من قائمة بعشرة أفلام أكثر مشاهدةً في الأسبوع وأصناف الأطعمة الصحّية وبرامج الحمية العذائية والتمارين الرياضية لإنقاص الوزن.
تلعب هنا وسائل الإعلام دوراً كبيراً لترويج نماذج ثقافية معيّنة، فإنَّ الفضاءات أصبحت مفتوحةً لمُشاركة كل مَن يريدُ حشدَ الجمهور حول أفكاره ومعتقداته السياسية والدينية وما يُقدّمهُ من أطروحات لتشخيصِ جذور المشكلات والأزمات. وفي ظلّ هذه السيولة الثقافية والفكرية، من الطبيعي أن يكون المرءُ مُتّخذاً قراراته بإيحاء ما تَمرُّ عليه من الصوَر والاقتباسات التي تتواردُ على منصّات إعلامية، سواءٌ أكانت تقليدية أو جديدة. هنا لا محيد من سؤالٍ بشأنِ عوامل التأثير على رؤية واختيارات الإنسان ورغباته في واقعٍ يضجُّ بخطابات توهمُ المتابعَ بوجود حلول سحرية لأزمات مركّبة، كما تدغدغُه بتوفير الفرص المتساوية للجميع، وما على صاحب المشروع إلّا أن يتمثلَ لشروط العصر والبحث عن الأدوات التي تُمكّنه من فكّ الألغاز لِيُصبحَ قدوةً للنجاح، ومتربّعاً على القمّة.
تغذية الرغبة الاستهلاكية
يُشير الصحافي السويسري آلان دوبوتون إلى ما أحدثته وسائل الإعلام من ازدياد التطلّعات المادّية وتغذية الرغبة الاستهلاكية لدى الجماهير وذلك بنقل أخبار رجال الأعمال ونمط عيشهم والاهتمام بقصص نجاحهم الخارق.
ويَذكرُ مؤلّف «عزاءات الفلسفة» ما حظي به كتابُ الرأسمالي الأميركي أنتوني روبنز، حيثُ سردَ تحت عنوان «أيقظ العملاق من داخلك» من الترويج والانتشار، وهو يتناول قصة انطلاقته من أصول متواضعة إلى أعلى مراتب النجاح، مؤكّداً أنَّ ما قام به ليس معجزةً ومن الممكن لأيِّ شخص أن يسيرَ على خطاه. بالطبع، هذا الطراز من الكُتب يخدمُ تكريسَ عقليّة نمطية تُرخي العنان لرغبات مادية إلى أن تُصبحَ المكاسب المادية معياراً وحيداً للنجاحِ، وما يحقّقهُ الإنسانُ خارج هذا المجال لا يُعْتدُ به إلّا إذا تحوّلَ إلى آلية داعمة لجني مزيدٍ من الربح.
توظيف القنوات الثقافية
وظّفَ النظام الرأسمالي القنوات الثقافية المتنوّعة منها الكتُب والمطبوعات في خدمة دورة الإنتاج والاستهلاك، وتكاثر عدد الزبائن. ما يعني أنّ الهدف من العمل لم يعد من أجل الإنسان بل لتوثين المال على حدّ قول كارل ماركس. لذا، فإنَّ الثقافة في أحسن أحوالها تكتسبُ دوراً تزيينيّاً داخل المجتمعات الرأسمالية. الأخطرُ في هذه المنظومة هو تجنيد كل الوسائل لإقناعِك بالاندماج في حركة السوق، ويكون الكتابُ أداةً ضمن الترسانة الرأسمالية، هذا إضافةً إلى ما يُضخُ في وسائل التواصل الإجتماعي وموقع «يوتيوب» من المُحاضرات عن تجارب الرأسماليّين ورجال الأعمال العالميين، وإيهام المتابع بإمكانية تكرار ذلك النجاح في حياتهم من دون أن يكلّفهم الأمرُ مجهوداً كبيراً. ويتصاعد سقف التوقعات يوماً بعد يوم، وتتّسعُ الفجوة بين ما يطّلعُ عليه الإنسان وما هو في متناوله. وآخر صيحات العالم الرأسمالي تراه في العُملة الإلكترونية بأنواعها المُختلفة، وما يُصاحبها من قصص أولئك الذين وصلوا بواسطتها إلى منصّة الملايين.
القدرة على الاستهلاك
وقد يطيبُ للمنضمّين إلى نادي رجال الأعمال الجدد تدوين سيرتهم في الكتب ويقومون بنشرها، وذلك لجذب عددٍ أكبر من الأشخاص للاستثمار بعملات إلكترونية.
ومن الواضح أنّ حجم القلق والتوتّر سيكبرُ بموازاة هذه المُعطيات الجديدة، إلى أن تُمحى الحدودُ لمُتطلبات وطموحات مُنفلتة، ويكون الأفضلُ مَن هو أكثر قدرة على الاستهلاك.
والجدير ذكره هنا ملاحظة القسّ الإنكليزي جون بانيستر، التي يستشهدُ بها آلان دوبوتون في كتابه «قلق السعي إلى المكانة» عن طبيعة الرأسمالية، إذ اكتشف أنّ الوافدين الجدد إلى أميركا نجحوا في دفع هنود منطقة خليج «هَدسُن» ليرغبوا في أشياء كثيرة لم يحتاجوا إليها من قبل، وذلك لأنهم لم يمتلكوها قط. وهذا ما يشتغلُ عليه النظامُ الرأسمالي بأن تستهلكَ ما لا يُضيفُ إليك شيئاً ولايسدُّ حاجتك الفكرية والمادّية. وما صدر للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بعنوان «الرئيس المفقود»، وهو عمل روائي شارك في صياغته الكاتب الشعبي الأميركي جيمس باترسون، يندرجُ في خانة ما لا تحتاجُ إلى قراءته نظراً لخلوّه من أبعاد فنّية حسب رأي النقاد والمُتابعين، ومع ذلك قد يكون من أكثر الكتب مبيعاً، ويُحوَّلُ إلى فيلم سينمائي.
الأكثرُ رواجاً
يدرسُ المفكّر السعودي عبدالله غدامي في مؤَلَفه «اليد واللسان»، موضوع ما يُسمّى بأكثر الكتب رواجاً، موضحاً أنّ مُعظم تلك العناوين من تأليف الرؤساء والإعلاميّين أو علماء النفس، إذ تتّصفُ لغة هذه المؤلّفات بالبساطة والأسلوب السواليفي، ويضربُ مثالاً طريفاً حول وقوع القارئ في فخّ العناوين الجذّابة منها كتاب «كل ما يعرفه الرجال عن النساء» من تأليف آلان فرنسيس.
يقولُ غدامي: «ما أن وجدتُ هذا العنوان حتى أخذته مباشرة وبدأتُ بنزع الغلاف وعندما تصفّحته تفاجأتُ بوجود 300 صفحة بيضاء». إذاً فإنّ رفوف المكتبات مليئةٌ بما يمكن الاستغناءُ عنه تماماً مثل المراكز التجارية المُكتظّة بالسلع التي ليست من الضروريات غير أنّ إدراكنا لهذه الحقيقة لا يمنعنا من شرائها.
يشارُ إلى أنّ كلّ توصية في المجال المعرفي هي مصادرة لرغبة البحث والتنقيب، ولولا جود هذه الرغبة لما يتطوّر العقلُ وتنضجُ الأفكار. هنا ربما يسألُ سائلُ هل ثمّة سبيل للتحصّن من مؤثّرات خارجية في اختياراتنا؟ هل نتجوّل في الأسواق ونردّدُ مثل سقراط «ما أكثر الأشياء التي لا نحتاج إليها»؟ ماذا لو أنّ قيمة الإنسان تكمن فيما يمتلكه وانسياقه وراء المُحدّدات السائدة في التذوّق والفكر؟ كيف يمكن اكتساب الثقافة بكلّ أشكالها بعداً إنسانياً من جديد؟ قد تتمثلُ الرهانات البديلة في الاهتمام بما ينمي الحسّ الإنساني ويتعالى على الاعتبارات الطبقية والقومية والدينية، لأنَّ كل ذلك أصبح من العوامل التي تُزيّتُ عجلة نظام يقدّسُ الربحَ ويبخسُ فيه الإنسان.
يقول المفكّر المصري سمير أمين إنّ النظام الرأسمالي لا يمنع من وجود شخص يمسك بيدٍ علبة «كوكا كولا» وبيدٍ أخرى يحمل شعارات مُتطرّفة. عدا عن ذلك، يجبُ تفادي الكتب التي تتضمّن وصفات جاهزة توهمنا بأنَّ ما نعيش فيه من المسلّمات والأنظمة المالية والسياسية التي تحكمنا قدرٌ لا مفرَّ منه. لأنَّ هذه الأفكار ما هي إلّا أيديولوجية الطبقة الحاكمة.