شخصيات من الذاكرة

عبدالرحمن السميط (1)

1 يناير 1970 11:07 ص

لم أجد شخصية واجهت فيها متعة في البحث والاستقصاء وسعادة ما بعدها سعادة مثل هذه الشخصية الفريدة من نوعها، فهي سيرة امتدت لثلاثين عاما عامرة بالعطاء، حافلة بالأحداث، عنوانها تعب وشقاء ووقودها إيمان ودعاء. ومن هذا المقام لا بد أن أشير إلى أن الدكتور السميط رحمه الله أكبر من أي كلمة تقال، فهذا رجل قلّما يجود الزمان بمثله، فشهرته التي طبقت الآفاق لم تأت من فراغ، عزيمته كانت بقوة أُولي العزم من الرجال، وسعيه كان دؤوبا لا يتوقف. رجل ينطبق عليه الوصف القرآني: «مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ? فَمِنْهُم مَّن قَضَى? نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ? وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» 23- الأحزاب.
تعرض للموت مرارا، ومنها عدة محاولات للقتل من بعض العصابات التي كان يزعجها وجوده، حتى الحيوانات المفترسة كان لها دور في حياته مثل الأسود والنمور والضباع. كانت المغامرة هي السمة الملاصقة لمسيرته الخيرية وحرص دائما على أن تكون أهدافه السامية دائما نصب عينيه، فسخّره الله لخدمة فقراء الأرض ومساكينها وسخر ماله وجهده وعلمه في ما ينفع الناس.
عاش للناس فترحّم عليه الملايين عند وفاته، وبكته العيون وذرفت المآقي الدموع على فراق هذه الشخصية الخيّرة التي ما حلّت في مكان إلا وأسلم فيه الكثير من الناس، وزرعت فيه شجرة أو حفرت بئرا أو عالجت مريضا أو أنشأت مدرسة أو دارا للقرآن.
أعماله ماثلة للعيان لا تخطئها الأعين وبصماته تكاد تغطي كل قارة أفريقيا ومجاهلها وغاباتها وسهولها وجبالها ووديانها... فأينما ذهبت هناك ستعرف أن الشيخ السميط قد مر من هنا، يعرفه الناس حتى لو لم يعرفوا العربية... يعرفه المسلم وغير المسلم، يعرفه الوثنيون والنصارى واللادينيون، حتى الأرض والطيور والدواب والأشجار لها ذكريات جميلة مع عطاءاته السخية اللامتناهية.
قصتي مع الدكتور عبدالرحمن السميط بدأت في أواخر الثمانينات عندما قرأت عنه ذات مرة في صحيفة الوطن الكويتية خبرا عن أعماله الخيرية، وانقطعت أخباره عني لأسباب عديدة ويأتي في مقدمها الغزو العراقي للكويت في العام 1990 وما تبع ذلك من دمار تام في كل مناحي الحياة. ولكن في العام 1995 عندما بدأت القنوات الفضائية تقتحم البيوت تدريجيا في الكويت لفت نظري حينها خبر عابر عن رحلاته المكوكية لأفريقيا فعزمت أن أتابع أخبار هذا الرجل وطفقت أرصدها بكل اهتمام ولكن الأمر لم يكن يسيرا في تلك الأيام كما يخطر ببال البعض، فالحصول على المعلومة كان أمرا عسيرا بالمقارنة مع اليوم والبارحة حيث انفتح الفضاء الإلكتروني على أوسع أبوابه وبات من اليسير جدا متابعة أي موضوع بكل سهولة ويسر.
أمضيت أياماً أشاهد لقاءات الدكتور على اليوتيوب وهي كثيرة بحيث من المستحيل تقريبا مشاهدتها كلها، وتفاجأت مرارا وتكرار من هول ما واجهه هذا الرجل ونحن نرفل في النعيم ولم نذق طعم السعادة الحقيقية التي طالما أكد أن مقرها القلب وليس الدينار فبَعث فيّ الحافز لأتبع خطاه للمبادرة بعمل خيري يكون لي رصيدا في الآخرة إن شاء الله. لقد خرجت بعدة استنتاجات عن مواصفات عبدالرحمن السميط عسى أن تكون في موضعها الصحيح، فهذا الإنسان ليس كبقية البشر وعلى ما يبدو أنه من عصر غير عصرنا لدماثة أخلاقه وإخلاصه لعقيدته السمحة ويقينه بأهمية دوره الإنساني الرفيع... ومن أهم هذه الصفات:
• الصبر: لقد تمتع هذا الرجل بصبر فريد من نوعه، فمهنة الدعوة لدين الله ومساعدة الفقراء والمنكوبين تتطلب صبرا من نوع مختلف، تحمّلَ الجوع والعطش وحتى مرض الملاريا الذي كاد أن يفتك به مرتين لولا لطف الله، صبر على مصاعب الحياة وقسوتها في أفريقيا حيث لا وسائل للنقل ولا طرق معبدة ونام في أماكن وقرى تحوم حولها السباع والذئاب والأفاعي الخطيرة مثل الكوبرا والمامبا... لا مياه نظيفة للشرب ولا للوضوء، والأراضي قاحلة والشمس تضربهم بلهيبها حيث لا ظل ولا ظليل، حمل بيديه الحانيتين أطفالا تموت من الجوع والمرض ورغم صعوبة التجربة صبر واحتسب صبره وعمله لله سبحانه وتعالى من أجل أن يحاول إنقاذ ما أمكن من الأرواح في قرى لم تمر عليها الحضارة ولا المدنية أبداً... بات جائعا أياما ونادرا ما تناول وجبتين في اليوم الواحد وخذ مثالا على ذلك حيث قال بلسانه إنه أمضى وأسرته أسبوعا كاملا ليس لديهم طعام سوى الموز... نعم الموز فقط ولا غير فهل هنالك من يستطيع أن يحتمل ذلك لولا أن كان رجلا صبورا؟
• الزهد: هذا شخص وهب كل حياته للآخرين، زهد في الدنيا ومفاتنها رغم قدرته المالية الجيدة وآثر الأخرة عليها بيقين المؤمن، بدأ مشواره الخيري وهو طالب في المدرسة واستمر معه ذلك في كندا حيث تخصص بأمراض الجهاز الهضمي وأمضى الكثير من وقته في خدمة الآخرين في المستشفيات ودور الأيتام. حتى آخر لحظة من عمره رحمه الله كان قادرا على العطاء ويوجّه فرق العمل في أفريقيا لمتابعة أعمالهم... وكأني به حين ترك الدنيا وما فيها كان يحمل في يده اليمنى مِعولا وفي الأخرى فسيلة شجرة ليزرعها مطبقا الحديث النبوي الشريف بحذافيره حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ فَلْيَغْرِسْهَا».

[email protected]