مثقفون بلا حدود

الجزائر في مؤلفات التونسي محمد صالح الجابري (2 من 3)

1 يناير 1970 10:57 ص

يحدثنا محمد صالح الجابري - رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - عن الوفاء في كتابه «النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين غيتونس 1900-1962»، قائلا: «ومن جامع الزيتونة تخرّج العلماء الوافدون من الجزائر، وظلت صلتهم بهذا المعهد العريق موصولة من جيل لآخر، ولم تفتر إلا بدخول الاستعمار الفرنسي الذي قطع الأواصر، وهدم جسور العلم، وأحكم الرقابة على الحدود لمنع التبادل إلى أن جاء عبد الحميد بن باديس في مطلع القرن العشرين، وقضى بالزيتونة أربع سنوات، ثم عاد بعدها إلى الجزائر ليقوم بحملته الهادفة إلى تنظيم البعثات الطالبية ونشر الوعي بوجوب الإقبال على العلم، واضعا كل إمكانياته المادية والمعنوية لإقناع الآباء بإرسال أبنائهم للدراسة بتونس، وإقناع الأبناء بضرورة التعليم، والمغامرة في سبيل طلب العلم» ص 335.
نضال الرجل الجزائري
إن الحديث عن نضال الرجل الجزائري مرتبط ارتباطا وثيقا بالأمير عبد القادر الحسني الجزائري، لذا؛ رأيت من المفيد أن، أنقل قصيدة ذكرها المرحوم محمد صالح الجابري طيب الله ثراه للأمير عبدالقادر الحسني الجزائري، يقول فيها:
أميرٌ إذا ما كان جيشي مقبلاً
وموقد نارِ الحرب إذْ ما لها صَالِي
 إذا ما لقيتُ الخيلَ إنّي لأول
وإن حال أصحابي فإنّي لها التالي
 أدافع عنهم ما يُذاقُون من ردىً
فيشكر كلٌّ منهم حسنَ أفْعالي
 وأورد رايات الطعان صحيحةً
وأصْدرُها بالرمْي مثقال غربال
ومن عادةِ السادات بالجيش تحتَمي
وبي يحتمي جيشي وتمنَعُ أبطالي
وبي تتَّقي يومَ الطعان فوارسٌ
تخالينَهم في الحرب أمثالُ أشبال
إذا تشتكي خيلي الجراح تحمحماً
أقول لها صبراً كصبري وإجمالي
وأبذل يومَ الروع نفساً كريمةً
على أنها في السلم أغلى من الغالي
(التواصل الثقافي بين الجزائر وتونس ص 88).
ورغم الأمن والطمأنينة اللذين تقدمهما تونس للجالية الجزائرية المهاجرة؛ إلا أن الجزائريين أبوْا إلاّ أن يأجّجوا نار الثورة بكتاباتهم الحماسية الغاضبة، وهذا ما أدركه الجابري- رحمة الله عليه- حيث قال: «وإذا أخذنا بالفكرة القائلة بأن الثورات المسلحة يفجّرها الكتاب بأقلامهم، ثم تجد بعد ذلك طريقها إلى الساحات والميادين فإن الثورة الجزائرية التي عاشت مخاضا طويلا، وتمرّست بالعصيان المسلح في العديد من الفترات كانت من أهم الثورات التي مهّد لها الكتّاب بنشاط حثيث دون ونىً. كما كانت من بين أهم الثورات التي استشهد فيها الكتّاب والمؤلفون والشعراء على أيدي المستعمر حين أبوْا أن يصمتوا وفضّلوا الحوار المسلح عن السكوت المذهّب أمثال: أحمد رضا حوحو، والعربي التبسي، والربيع بوشامة ومولود فرعون، والأمين العمودي.
كما يمكن أن يضاف إلى قائمة الكتّاب الشهداء الذين سقطوا برصاص المستعمر، شهداء آخرين كان استشهادهم أشد إيلاما حين أجبروا على قبول الموت وهم أحياء بسبب آرائهم المناوئة للاستعمار، فكان موت عمر بن قدور نموذجا للاستشهاد البطولي، وكذلك عمر راسم، وإبراهيم اطفيش وآخرون من المهاجرين بآرائهم، أو المهاجرين بأنفسهم ممن أطبقت عليهم قبضة المستعمر ولُوحقوا وأوذوا، واشتط في تعذيبهم ووجهت إليهم نفس التهمة، تهمة النشاط الفكري والثوري الذي كان المستعمر يتحسّب له، ويقدّر خطره الجسيم مهما تباعدت مواقع النضال، وترامت المسافات. وسواء كان هذا النضال من خلال النشر بالصحف الجزائرية المحلية أو الصحف المغربية أو العربية والإسلامية». (النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس 1900-1962 ص 217 و218).
ويربط لنا الجابري الثورة بالعلم فيبدأ قائلا: «وبسبب معايشة هؤلاء الكتاب للبيئة التونسية، واندماجهم في الوسط الاجتماعي والفكري بتونس، وشعورهم بالتلاحم المصيري، وإيمانهم بالوشائج التي تربط بين الشعبين المتآخيين فإن كتابات بعضهم مثل عبدالحميد الشافعي، ونور الدين بوجدرة لم تخلُ من ذكر اللحمة المتأصلة بين الشعبين حيث نرى في رواية الشافعي أن بطل روايته» عبداللطيف «يصر على الزواج من الفتاة التونسية» لطيفة «التي تعرف إليها أثناء دراسته بتونس، وأحبها في عفة فيتم له ذلك ليلبي حاجة نفسية في وصل اللحمة والوشائج الدموية بين الشعبين» (الأدب الجزائري المعاصر ص 132).
ولعل الكتابات الأدبية من منظور الجابري هي المتنفس للطلبة الجزائريين المناضلين؛ ليعبِّروا عمّا يجول في ثنايا فرائصهم حينما ترعد ومن دماء ثائرة غائرة تغلي ضد المستعمر، فتراه- رحمة الله عليه- يقول «إن معظم الذين كتبوا هذه القصص في هذه المرحلة بالذات كانوا من طلبة جامع الزيتونة، وكان ارتباطهم بالدراسة والتعليم يمنعهم من الالتحاق بالثورة، بل إن الثورة نفسها منعت جلهم من ترك مقاعد الدراسة والالتحاق بالجبال. ولهذا السبب كانت الكتابة هي البديل المتاح، إذ لا فرق بين الكفاح بالقلم، وبين الكفاح بالسلاح، فكلاهما يشكل الخط الحاسم على المستعمر» (الأدب الجزائري المعاصر ص 133 و134).

* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]