إيران بين مجازفتيْن

1 يناير 1970 06:36 م

أدرج وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو خروج إيران من سورية في خانة الشروط المطلوب من طهران تنفيذها في حال تريد إقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة. جاءت كل الشروط التي وضعها بومبيو في سياق تحديد الاستراتيجية الاميركية الجديدة في المواجهة مع ايران في ضوء قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي الايراني الموقع صيف العام 2015.
سمح الاتفاق لإيران في الحصول على ما يكفي من المال الذي أغدقته عليها إدارة باراك أوباما كي تتابع تنفيذ مشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة العربية كلها، فضلاً بالطبع عن المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية والفلسطينيين والتشجيع على إنشاء ميليشيات مذهبية تكون ذراعاً لها في هذا البلد العربي أو ذاك.
يتبيّن من خلال قراءة سريعة لكلام وزير الخارجية الأميركي أن هناك وعياً حقيقياً لخطورة المشروع الايراني وأدواته. أشار بومبيو صراحة الى «حزب الله» والى الحوثيين الذين يطلقون صواريخ بالستية إيرانية في اتجاه الأراضي السعودية انطلاقاً من اليمن. أشار أيضا الى الوضع الداخلي الايراني والى توق الشباب في هذا البلد ذي الحضارة القديمة الى الانتماء الى ما هو عصري في هذا العالم، أي إلى ثقافة الحياة التي يكرهها النظام الايراني وكلّ الذين يسيرون في ركابه. انطوى كلام بومبيو على دعوة مباشرة إلى تغيير النظام في ايران.
يظلّ أهم ما في كلام وزير الخارجية الاميركي شرط الانسحاب الايراني من سورية. هل في استطاعة النظام الانسحاب من سورية من دون أن ينسحب من طهران؟ سيكون ذلك صعباً عليه لأسباب عدّة. من بين هذه الأسباب حجم الاستثمار الايراني في سورية وفي المحافظة على رأس النظام المتمثل ببشّار الأسد. باعتراف المسؤولين الايرانيين أنفسهم، صرفت إيران في سورية منذ اندلاع الثورة الشعبية في سنة 2011 ما يزيد على خمسة وعشرين مليار دولار. دافعت إيران عن بقاء بشّار الأسد في دمشق. جندت مئات الخبراء العسكريين وعناصر «الحرس الثوري» وآلاف من عناصر «حزب الله» و«الحشد الشعبي» في العراق والميليشيات الأفغانية في حربها على الشعب السوري. فعلت كلّ ذلك من منطلق مذهبي ليس إلّا وتحت شعارات طائفية من نوع الدفاع عن مقام السيّدة زينب ومقامات أخرى وما شابه ذلك.
كانت النتيجة فشلاً إيرانياً ذريعاً على كل صعيد والتضحية بمئات الشبان اللبنانيين الذين جنْدهم «حزب الله» وأرسلهم إلى سورية. فوق ذلك كلّه، لم تستطع إيران إبقاء بشّار في دمشق لولا استعانتها بروسيا التي باشرت التدخّل المباشر في الحرب، التي يشنها النظام السوري على مواطنيه، منذ أواخر سبتمبر 2015. لولا سلاح الجوّ الروسي، لكان بشّار خارج دمشق منذ فترة طويلة ولكان الساحل السوري كلّه في يد المعارضة.
تكمن مشكلة إيران في انّها ترفض دفع ثمن سياسة عاجزة عن متابعتها بمفردها، خصوصاً في سورية. لم تأخذ في الاعتبار انّه سيأتي يوم يتغيّر فيه باراك أوباما ويأتي دونالد ترامب الذي يعرف الذين يصيغون خطاباته ماذا فعل النظام الايراني بالايرانيين أوّلاً وما ارتكبه من جرائم في حق الولايات المتحدة. ليس صدفة استعادة الرئيس الاميركي بين وقت وآخر احتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444 يوماً في العامين 1979 و 1980 وتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في الثالث والعشرين من أكتوبر 1983 وخطف أميركيين في لبنان في ثمانينات القرن الماضي. هذا غيض من فيض ما لدى الإدارة الاميركية من مآخذ على ايران التي لم تدرك أن وقت الحساب جاء.
هناك واقع يتمثل في حلول وقت الحساب. تحاول إيران الإفلات من هذا الواقع، بما في ذلك التحالف الأقوى في المنطقة القائم بين روسيا وإسرائيل. هذا تحالف لم تعد من حاجة إلى تأكيد متانته بعد حلول بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ضيف شرف على روسيا في ذكرى احتفالها بالانتصار على النازية. هناك ما يزيد على مليون روسي صاروا مواطنين في إسرائيل. ما زال المسؤولون في موسكو يسمون هؤلاء «مواطنين في إسرائيل». ينتمي الروس الذين انتقلوا إلى إسرائيل، على دفعات، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي الى الأحزاب اليمينية التي تشكل العمود الفقري للحكومة الإسرائيلية الحالية.
عندما يبلغ فلاديمير بوتين بشّار الأسد انّه بات على القوات الأجنبية، بما في ذلك الخبراء والمستشارون الايرانيون والعناصر التابعة لـ«حزب الله» ولغيره من الميليشيات المذهبية، الانسحاب من الأراضي السورية، يُفترض في طهران فهم معنى الرسالة والاستيعاب التام للمعطيات الجديدة التي تفرض عليها تغيير نمط سلوكها.
إنّ دعوة روسيا ايران الى الانسحاب من سورية أكثر من جدّية. جاء وزير الخارجية الاميركي ليؤكّد ذلك وليؤكد خصوصاً انّ الضربات «المجهولة» المصدر التي تتلقاها المواقع الايرانية في سورية لن تتوقف غداً. تمثل هذه الضربات ما يمكن تسميته، باللغة المتداولة في الاوساط الرسمية السورية «التعليمات التنفيذية». تعني هذه «التعليمات» انّه آن أوان تنفيذ ما تقرّر على أعلى مستويات. فالقانون والمرسوم والقرار الرئاسي في سورية يبقى حبرا على ورق في المجال الداخلي الى ان تأتي «التعليمات التنفيذية». وفي ما يخص الموضوع السوري، صدرت «التعليمات التنفيذية» من اعلى المستويات، أي من التفاهم الاميركي – الروسي الذي يشمل إسرائيل التي انتقلت الى مرحلة لم يعد فيها مجال لقبول الوجود العسكري الايراني المباشر او غير المباشر في الأراضي السورية، خصوصا في الجنوب السوري.
هل تستطيع إيران التكيّف مع هذا الواقع الجديد المتمثّل في صدور «التعليمات التنفيذية» من دون الذهاب الى تفجير الوضع في المنطقة كلّها على الرغم من أن ذلك مجازفة كبيرة بالنسبة إليها، خصوصا اذا طلبت من «حزب الله» إعادة فتح جبهة جنوب لبنان؟
الأكيد ان ايران تزن هذه الايام الموقف وما سيكلفها الانسحاب من سورية أو قرار البقاء فيها. الأكيد انّ في ذهن كلّ مسؤول إيراني ان الانسحاب السوري من لبنان في ابريل 2015، أدّى الى خروج النظام من دمشق، حتّى لو بقي بشّار فيها شكلياً. ترجمة هذا الكلام على ارض الواقع ان البقاء في سورية مجازفة والانسحاب مجازفة. على أي مجازفة من المجازفتين ستقدم ايران بعدما وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه؟ من أبرز ما تنطوي عليه أي مجازفة إيرانية، في أي اتجاه كان، مستقبل النظام الذي بنى كلّ قوته على الهرب المستمر الى خارج الأرض الايرانية.