لم تطفئ بيروت، المهشَّمةُ بـ «حروبِ» العرس الديموقراطي أنوارها، فالمساءُ حلّ ثقيلاً على الجميع بعد نهارٍ طويل من انتخاباتٍ كأنها «حربٌ» بالصناديق... ومن خلف جنح الليل وقمره «الناطر» نتائج الفرز الأولية على أعصابه، تَسلّل السؤال الكبير: ماذا بعد؟
فبيروت التي لم تنَم كأنها تخرج اليوم من ساحة المعركة، تلملمُ سريعاً متاريسَها وصورَ المرشحين العملاقة وشعاراتِهم والكلامَ المسموم، تنْزعُ الخناجرَ واليافطات ومكائد الحملات الانتخابية، وتأوي إلى فحصِ برلمان الأربع سنوات المقبلة في حُلوه ومُره ويدُها على قلْبها.
اليوم في بيروت لـ «الربح والخسارة»، أقواسُ نصْرٍ ومراسم عزاء، أساريرُ عريضة وعيون منكّسة، وجوجلةٌ على الشاشات وخلف الستائر المقفلة وفي الشوارع المتعَبة لحصيلةِ انتخاباتٍ كما تكون يكون لبنان في توازناتِه الهشة وعلى خريطة المَحاور وحروبها.
الانتخابات في لبنان، كما في سائر دول العالم، ليست مجرد تمرين ديموقراطي لاختيار الممثلين الأكفأ، إنها ولا سيما في الشرق الذي صار مستودع نار، رقْصٌ بالخيارات الكبرى فوق الصناديق المفتوحة على الصراع الكبير في منطقةٍ تنْدفع بخطواتٍ مترددة نحو حربٍ حتمية. ففي اللحظة التي ترتسم مع نتائج اليوم القواعدُ الجديدة للعبة السياسية في لبنان إيذاناً بمسارٍ دستوري صعب، تحت أنظار العالم الذي كان أرسى ما يشبه «ربْط نزاعٍ» مع بيروت في انتظار نتائج الانتخابات لـ «يُبنى على الشيء مقتضاه».
في لبنان وانتخاباته كل القصة «حزب الله»، ترسانةُ الصواريخ على تخوم إسرائيل، والذراعُ الإيرانية الطويلة في سورية والعراق واليمن وغير مكان، والميناء البحري لاوتوستراد طهران - بيروت، والايديولوجيا «المرقّطة» التي صار لها نظراء على امتداد بقعة الدم الآخذة في الانفلاش في المنطقة.
فما يهمّ الخارج، بشرْقه وغربه، من الحدَث اللبناني وصناديقه، معاينةُ ما ستؤول إليه بيروت في ضوء النتائج التي حقّقها «حزب الله» الذي أراد الاستحقاق استفتاءً على خياراته، وأَراده آخرون إعلاءً لخياراتِ الدولة المتكئة بطبيعة الحال على الشرعية الدولية وقراراتها.
هل ينتزع «حزب الله» مفاتيح البرلمان مع إعلان النتائج الرسمية للانتخابات اليوم؟ إنه السؤال الأكثر إثارة في مجمل العملية الانتخابية التي شهدها لبنان أمس وفق قانونِ كان للحزب اليد الطولى في هنْدسته واستند في فلسفته على تمكينه من حصد «الثلث المعطل»، أي 43 نائباً.
وبهذا المعنى فإن تحولاً بهذا الحجم ينطوي على رسائل للداخل والخارج على حد سواء، فالحزب سيصبح شريكاً مضارِباً من داخل الدولة التي يطمح إلى تعديل آليات اتخاذ القرار فيها، ويخطو نحو الاحتماء بها في مواجهة تحدياتٍ مصيرية تراوح بين العقوبات والحصار والحرب.
وعلى عكْس الانطباع السائد بأن مرحلة ما بعد الانتخابات، كاختيار رئيس البرلمان وتشكيل حكومة جديدة، ستؤدي إلى الإطاحة بالمعادلة القائمة على «التسوية والاستقرار»، فإن معطيات ذات صدقية تؤشر إلى ان «حزب الله» سيأخذ على عاتقه «بقاء القديم على قدمه».
وثمة مَن يعتقد في هذا السياق أن «حزب الله»، الذي يدرك أن المعركة المفتوحة من بيونغ يانغ إلى بيروت، مروراً بواشنطن وبكين وموسكو وطهران وتل أبيب، تقترب من فصولٍ عاصفة، سيتولى دورَ الاطفائيّ للحرائق التي أَشعلتْها الانتخابات بين حلفائه. فرغم تلويح حليف الحزب، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بـ «حكومة أكثرية» في حال تعذّرتْ حكومة الوحدة الوطنية، وملامح قيام جبهة معارضة في وجه عهده يتزعّمها حليف «حزب الله» رئيس البرلمان نبيه بري، فإن الحزب مضطر للعودة بالجميع إلى تفاهم الحد الأدنى تحسباً للحرب المحتملة.
فعلى أجندة «حزب الله»، الذي يريد الاطمئنان إلى حماية ظهْره، مواعيد حرجة واستحقاقات لا يستهان بها، كالموقف الأميركي «النهائي» من الاتفاق النووي مع إيران في الأيام القليلة المقبلة (السبت المقبل 12 مايو كحد أقصى) وتداعياته، وتحضيرات الولايات المتحدة لعقوبات أشدّ صرامة على طهران والحزب.
وفي تقدير البعض ان واشنطن التي نجحتْ في المجيء بكوريا الشمالية إلى بيت الطاعة عبر الضغوط على الصين، تستعدّ لممارسة هذا النموذج في الشرق الأوسط عبر العصا والجزرة حيال موسكو وطهران، وخصوصاً بعد رسالتها الصاروخية بالبريد السوري يوم الضربة الثلاثية.
وليس جديداً القول ان «حزب الله» المرتاب من الحرب ومعه ايران التي غضت الطرف عن ضربتيْن موجعتيْن لها في سورية، يتحوّط من تمادي اسرائيل في اللعب على حافة الحرب، وتالياً سيضغط في اتجاه تبريد الداخل بعدما أخذ ما أراده من صناديق الاقتراع.