راجح سعد البوص / حكمة اليوم / أول استجواب في التاريخ

1 يناير 1970 07:13 ص
الاستجواب ظاهرة صحية كفلها الدستور ويتبين من خلاله الخلل والمسارعة لرأب الصدع الذي غالباً ما تكون آثاره على البلد، فلماذا الجزع ولماذا هذه الضجة، فإذا كان المستجوب (بكسر الواو) مخطئاً فسينكشف خطؤه، وإن كان المستجوب (بفتح الواو) غير مخطئ فلماذا تقوم الدنيا ولا تقعد على عدم استجوابه، أعتقد أن الخلافات الإسلامية كانت أشد تعقيداً في إدارتها منا وذلك لاتساع الرقعة الإسلامية فيها، وصعوبة وسائل الاتصال فيما بينهم، وقلة الموارد المالية التي هي عصب الدولة وروحها، إلا أن الذي جعلهم يقهرون الدول العظمى في زمانهم (فارس والروم) هو خوفهم من الله، واستشعار المسؤولية، ومحاسبتهم المستمرة لبعضهم البعض بعيداً عن حظوظ النفس والتشفي، فلو نظرنا على سبيل المثال في حياة سعيد بن عامر رضي الله عنه مع الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم سلطنا الضوء عن قرب لنرى روعة الخطاب ولينه بين الحاكم والمحكوم، وشفافية الاستجواب ورقته بين الوالي والخليفة، فسادوا بذلك وشادوا.
دخل سعيد بن عامر الجمحي على عمر بن الخطاب في أول خلافته فقال: «يا عمر، أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، وألا يخالف قولك فعلك، فإن خير القول ما صدقه الفعل... يا عمر: أقم وجهك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، واحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق، ولا تخف في الله لومة لائم». فقال عمر: «ومن يستطيع ذلك يا سعيد؟». فقال: «يستطيعه رجل مثلك ممن ولاهم الله أمر أمة محمد، وليس بينه وبين الله أحد».
عند ذلك دعا عمر بن الخطاب سعيداً إلى مؤازرته وقال: «يا سعيد إنا مولّوك على أهل حمص». فقال: «يا عمر ناشدتك الله ألا تفتنني». فغضب عمر وقال: «ويحكم وضعتم هذا الأمر في عنقي ثم تخليتم عني! والله لا أدعك». ثم ولاه على حمص، وقال عمر لسعيد: «ألا نفرض لك رزقاً؟». قال: «وما أفعل به يا أمير المؤمنين؟ فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي». ثم مضى إلى حمص. وما هو إلا قليل حتى وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم عمر: «اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسد حاجتهم».
فرفعوا كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر، فقال: «ومن سعيد بن عامر؟». فقالوا: «أميرنا». قال: «أميركم فقير؟». قالوا: «نعم، ووالله إنه ليمر عليه الأيام الطوال ولا يوقد في بيته نار». فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار فجعلها في صرة وقال: «اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجاتك». جاء الوفد إلى سعيد بالصرة فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه وهو يقول: «إنا لله وإنا إليه راجعون». كأنما نزلت به نازلة أو حل بساحته خطب فهبت زوجته مذعورة وقالت: «ما شأنك يا سعيد، أمات أمير المؤمنين؟». قال: «بل أعظم من ذلك». قالت: «أأصيب المسلمون في واقعة؟». قال سعيد: «دخلت علي الدنيا لتفسد آخرتي، وحلت الفتنة في بيتي». قالت: «تخلص منها». وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً. قال: «أو تعينيني على ذلك؟». قالت: «نعم».
فأخذ الدنانير فجعلها في صرر ثم وزعها على فقراء المسلمين. لم يمض على ذلك طويل وقت حتى أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ديار الشام يتفقد أحوالها فلما نزل بحمص لقيهُ أهلها للسلام عليه فقال: «كيف وجدتم أميركم؟». فشكوه إليه وذكروا أربعاً من أفعاله (بنود الاستجواب)، كل واحد منها أعظم من الآخر، وطلبوا استجوابه عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
قال عمر فجمعت بينه وبينهم، ودعوت الله ألا يخيب ظني فيه؛ فقد كنت عظيم الثقة به. فلما أصبحوا عندي هُم وأميرهم، قلت: «ما تشكون من أميركم؟».
قالوا: «لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار». فقلت: «وما تقول في ذلك يا سعيد؟».
فسكت قليلاً، ثم قال: «والله إني كنت أكره أن أقول ذلك أما وإنه لابد منه، فإنه ليس لأهلي خادم، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس». قال عمر... فقلت لهم: «وما تشكون منه أيضاً؟». قالوا: «إنه لا يجيب أحد بليل». قلت: «وما تقول في ذلك يا سعيد؟». قال: «إني والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً فأنا جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل». قلت: «وما تشكون منه أيضاً». قالوا: «إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر». قلت: وما هذا يا سعيد؟». قال: «ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي علي، فأنا أغسلها في الشهر مرة وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم في آخر النهار».
عند ذلك قال عمر: «الحمد لله الذي لم يخيب ظني به». ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته. فما غادر مجلسه الذي هو فيه حتى جعل الدنانير في صرر، وقال لواحد من أهله انطلق بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين آل فلان، وإلى معوزي آل فلان. (يعني ما يحتاج ديوان محاسبة).
نموذج رائع من الذين رضي الله عنهم، لا نستطيع أن نكون مثلهم لكن نستطيع أن نستفيد منهم في استشعار المسؤولية، وحمل الأمانة، وروعة الخطاب ولينه بين الحاكم والمحكوم، وشفافية الاستجواب ورقته بين اللجنة التشريعية والتنفيذية. اللهم احفظ الكويت وشعبها من كل مكروه.
حكمة اليوم
لا تبوق ولا تخاف

راجح سعد البوص
كاتب وأكاديمي كويتي
[email protected]