يقال إن الانسان لا ينسى ذكريات الطفولة التي تبقى رفيقة عمره، خصوصا اذا كانت جميلة وأثيرة، فما زلت أتذكر مثلا حين رافقت والدي في رحلة برية، كنت حينها صغيرا في المرحلة الابتدائية، وقد اعتاد والدي وأصدقاؤه على مثل هذه الرحلات في موسم الربيع،الا ان الامر كان مثيرا للغاية بالنسبة لي وبلغ بي الحماس أقصى درجاته.
كان المخيم في منطقة برية معروفة تدعى الصبية وتقع شمال الكويت، كان أحد أصدقاء والدي وهو من عائلة معروفة من أهل الفنطاس عائلة المزيعل الكرام، وبالمناسبة فإن الفنطاس قرية ساحلية قديمة سكنها كثير من عوائل بني خالد وكانت غنية بأشجار النخيل والسدر كما ذكر ذلك السعيدان صاحب الموسوعة الكويتية رحمه الله، كان هذا الصديق كما بدا خبيرا في الصيد و«المقناص» وهو صيد الطيور بواسطة الصقر أو الباشق أو الشاهين، إلا ان صديق والدي كان يصطحب صقرا تركه جاثما على وتد من حديد يسمى الوكر، وكدت أطير من الفرحة حين دعاني صديق والدي لما رآني مأخوذا بما رأيت وألبسني المنقلة وهي قفاز كبير من قماش سميك هي بمثابة درع واقية تحمي يد من يحمله من مخالبه ويسمى الصقر بالطير الحر.
وحين لبست المنقلة تسارعت نبضات قلبي وامتلأت بالادرينالين وأنا أحمل الصقر على ساعدي، وقد عصبت عيناه بالبرقع وهو قناع صغير من الجلد يغطي وجهه عدا منقاره المعقوف كالمنجل.
ثم انطلقنا في جولة استكشافية بسيارة جيب نتجول في البراري الفسيحة، وكنت لبراءتي أتصور ان الصيد سهل وأن الامر سريع وأن فرائس الطيور تنتظرنا بالجملة.
تأخرت الفريسة ولم أر شيئا، شعرت بالملل وبدأ الفتور يتسرب إلى نفسي العطشى، قال لي حينها العم أحمد لن تجد يا ابني صيدا للأسف، فقلت لماذا يا عم !
قال لأن هذا البر الفسيح الممتلئ بالطيور الذكية تجتهد بالتخفي والتمويه، وأن علينا أن نصبر ونبحث، فالرزق الطيب يحتاج الى بذل السبب والسعي وراءه بإلحاح، الا ان هذه الجولة الصغيرة لم تكن للصيد وإنما كانت لجبر خاطرك، وقد كان.
رجعنا الى المخيم لتناول وجبة الغداء التي تم اعدادها، وعرفت أن العم أحمد قد أحضر صقره للتدريب ورأيت في تلك الرحلات التي كان حريصا فيها والدي على اصطحابنا معه رغم ما قد نشغله فينا وفي الإشراف والعناية بنا ونحن الصغار الأشقياء، رأيت كيف زرعت فينا حب الطبيعة وحب كل شيء في صحرائنا وبحرنا وجونا، أقول من كل قلبي هنيئا للأبناء الذين تنعموا بوالد حنون حليم ومرب صبور كريم، وأقول لمن لم يتيسر لهم ذلك كونوا أنتم إذا صرتم آباء كبارا كما كنتم صغارا تحبون.