تزاحم الكتاب لنيل
جائزة أدبية دليل
على عدم ثقتهم
بأقلامهم وكتاباتهم
الكاتب الحقيقي
يجد نفسه
في المكان الحقيقي...
ويترك حبره ينساب
كخرير ينبوع صافٍ
العمل الإبداعي لا يخلو- في معظم حالاته- من التجارب الذاتية، من خلال ما اختبره الكاتب وعاشه في ظل الظروف المُختلفة... لكن هذا لا يكفي إذا أريدَ لمشروع الكتابة والتأليف أن يخرج من الأُطر النمطية، فلا مناص من البحث عن الرؤى الإنسانية المختلفة، والاشتغال على كل ما بمقدوره أن يساهم في اتساع أفق التفكير، وإضاءة الجوانب المعتمة في المشهد، كما أنَّ الشروع في الكتابة - بقطع النظر عن النوع - يستدعي التفاعل مع تجارب الآخرين والإنصات إلى نبضات أعمالهم...
هكذا هو الإجراء الذي تتبناهُ الكاتبة اللبنانية نسرين بلوط، الشاعرة التي اتجهت بقوة إلى الرواية، فإلى جانب تأليفها لثلاثة مجاميع شعرية أصدرت روايتين، كما أنها لم تنقطعْ عن الكتابة في المجال النقدي، معتبرة الشعر ابتكاراً أو احتضارا، وأصبح - في رأيها - مستسهلاً ومستباحاً أكثر من الرواية، فكتابتها مثل وتد ثابت يربط الماضي بالحاضر.
وترى أن تزاحم الكثيرين من الكتاب لنيل جائزة أدبية دليل على عدم ثقتهم بقلمهم وعطائهم، وأن النقد هو العضو الأساسي في جسد العمل الإبداعي، والكثير من الرؤى التي نستشرفها خلال هذا الحوار مع صاحبة رواية «الخطيئة»...
• أنت اولا عُرفتِ كشاعرة ولك ثلاثة مجاميع شعرية، ومن ثم اتجهت الى الرواية ونُشرت لك روايتان هما «مساؤك ألم» ومن ثم «الخطيئة»، هل تعتقدين أن السبب وراء كتابة الرواية إلى جانب الشعر ان جنساً ادبياً واحداً لا يستوفي - على مستوى المضمون والشكل - رؤية المبدع؟
- الشعر قد يكون ابتكاراً أو احتضاراً. الإبتكار بمعنى البرق الخاطف الذي يسطع في رحى الأحزان فتنقشع وتتماهى بروحٍ ثاقبة ترقب الكون
وتختصره كله ببعض الكلمات. تسجّل المعاناة الإنسانية والبيئية وحتى الوطنية كما فعل لوركا عندما تأهب للعواصف العاتية التي ألمّت بوطنه، فكانت قصائده الخاطفة كالبرق سبباً في إعدامه لقدرتها على التوهج والسيطرة. أما عندما يكون الشعر احتضاراً فهو ينازع أنفاسه الأخيرة في حضرة من يدّعون المعرفة والموهبة فينازع الشعر بين أيديهم أنفاسه الحزينة.
والرواية قد تكون غربلة أو سربلة. غربلة بأن تجحظ عين القلم على كلّ شاردة وواردة تصدر من النفوس البشرية التي تضج بالأسرار أو من المجتمع الحاضن لها، وقد تكون سربلة بمعنى أن يسربل الكاتب على روايته معطيات فنية دقيقة تقيها النقد فقط، من دون أن يلج السر الماورائي في ميثيولوجيا الكون وميتافيزيقيته فتأتي باهتة المعالم. بالنسبة لي فقد أجدت الشعر كموهبة تأصلت في كياني منذ كنتُ في السابعة من عمري وتدرجت به وارتقيت بقلمي إلى مدى شاسع أصبح يؤهلني لكتابة رواية تأثرت فيها بمفهوم دوستوفيسيكي النفسي وتحليل نيتشه الوجودي وتقنية نجيب محفوظ الشعبية التي تواكب الناس في همومهم وأفكارهم. ولهذا كتبت الإثنين لأني برعتُ فيهما وليس بسبب تفوق الشعر على الرواية أو العكس.
• هل يمكن تفسير ازدياد الشعراء الذين يكتبون الرواية بغياب الصوت الشعري الرصين ما ادى الى العزوف عن الشعر؟
- بالعكس، الشعر أصبح مستسهلاً ومستباحاً أكثر من الرواية لمن هبّ ودب، كل من تبرق له بارقة للصعود للمجد المزيف الذي لن يبلغه للفراغ الأجوف في مسامات قلمه، أصبح يعتلي منبراً، وكل من انبثقت في ذهنه خاطرة مهما بلغ انحدارها يكتبها ثم ينشرها في كتاب. وحتى الرواية تتعرض للنهب من قبل من يتهيّأ لهم بأنّهم يمتلكون الآلات الفنية المهيئة لكتابتها، وهذا وهمٌ كبير. الكاتب الحقيقي يجد نفسه في المكان الحقيقي، ويترك حبره ينساب كخرير ينبوع صافٍ أو كعِذقٍ يتعلق بشجرة سنديان متينة لا تنثره الأنواء والرياح مهما تقلّب الموسم. وكما قال فيكتور هوغو: «القلم مرآة القلب وترجمان العقل».
• كانت روايتك الاولى مطبوعة بملامح ذاتية بينما استمدت مادتك في الخطيئة من منجم التاريخ، هل هذا الاجراء نوع من الاسلوب التمويهي للحديث عن الحاضر؟
- أسترجع هنا قول الكاتب أنيس منصور: «الجريمة هي الخطيئة التي نرتكبها علناً والخطيئة هي الجريمة التي نرتكبها سراّ».
في الخطيئة استرجعت التاريخ الإنساني وليس الحضاري فقط لأفك شفرات عالقة في ذهن الزمن الخالي، وأجرّ خطيئة الإنسانية إلى النور، فتلك الحقبة التي كتبت عنها عن الظلم العثماني وجوره وما خلفه من احتقان عاصف في نفوس اللبنانيين والثورة التي تكبّدها وراح ضحيتها الكثيرون بسببه، لم تكن لعين الحق أن تغفل عنه. خطيئة ميرا كانت الجسد
وخطيئة بقية الأبطال كانت الركون إلى الظلام أو تهيئة الجو للسواد الحالك كي ينسدل على الحقيقة. وهذه الخطيئة تتكرر في كلّ زمن وأي مكان، ولهذا كتابتها مثل وتد ثابت يربط الماضي بالحاضر. وإنكار الخطيئة يعني إعادة ارتكابها أما الإقرار بها وسحبها للنور قد يكون عملية تطهير لها.
صحيح أنني أضأت في روايتي «الخطيئة» تاريخا مهما في لبنان ولكني تغلغلت وتوغلت في جنون المضائق الصعبة للروح البشرية بكل سوادها ونورها وترجمتها في رواية صريحة تكون بمثابة مرآة لذواتنا.
• كثرت الجوائز الادبية أخيرا، وذلك بتزامن مع النقاش الذي احدثه في الاوساط الادبية، كيف تقرأين هذه الظاهرة؟
- تزاحم الكثيرين من الكتاب لنيل جائزة أدبية دليل على عدم ثقتهم بقلمهم وعطائهم... من يقيّمهم ليس جائزة قد تتدخل فيها محسوبيات معيّنة أو شروط ظالمة، بل شفافية القراء ومدى تلقيهم لقيمة عطائه.
الكاتب الذي يدخل قلوب الناس هو الفائز الحقيقي. وقد قرأت للكثير من الكتاب الشرقيين والغربيين الذين نالوا جوائز مهمة، وفوجئت كناقدة بأنّ الكثيرين منهم لا يستحقون تلك الجائزة، لأن التشعث الفكري فيها كان واضحاً. منهم من اعتمد على قوة اللغة فقط فانحدر مع المنحدرين إلى خضم التلاطم الذهني، ومنهم من كرّس للحبكة دوراً كبيراً فتغاضى عن سلاسة السرد مما سرّب الملل إلى نفس القارئ. وكتبت مقالات كثيرة ودقيقة عن هذا التجاوز الأدبي الذي كرّس إبداعاً في جائزة لمن لم يستحقها.
• ما رأيك بما ينشر من المراجعات النقدية في المنابر، هل تعتقدين بأن آراء النقاد تؤثر على توجهات الروائيين؟
- النقد هو العضو الأساسي في جسد العمل الإبداعي، بمثابة الحنجرة التي تردّد أصداء هذا الجسد وما يتناوب عليه من شعور الوجع أو الراحة. وهو يمسك بتلابيب العمل الفني بحذق ومهارة ويروّضه ويبدد عنه السحاب الجاثم فوقه من عبارات الثناء أو الذم، ليسطع كالشمس بوضوح الحقيقة.
قال الشاعر الأميركي أوليفر هولمز: «الكلام من اختصاص المعرفة أما الاستماع فهو امتياز الحكمة».
فالناقد الحقيقي ينطق بالحق ليصحح مسار الكتابة والكاتب الحقيقي يصغي بتأنٍ وصبر ليستفيد من نقاط ربما كانت غائبة عنه ويبلورها ويصقلها فتأتي كتابته بعد رحلة شاقة أمثولة للتاريخ وصياغة للإنسانية.