انتهى دور الممثّل زياد عيتاني في «المسرحية» التي فُرض عليه لعب دور البطولة فيها. رغماً عنه اعتلى خشبة المسرح لمئة يوم، تقمّص شخصية «العميل لاسرائيلي» تحت الضرب والتعذيب.
السيناريو الذي كُتب على أيدي محترفين أمنيين، شاء لزياد نهاية دارماتيكية خلف القضبان لعشرات السنين، لكن فجأة طرأ تعديل خارج عن سيطرة «السيناريست»، برّأ الممثل من التهمة الملفّقة له، لتبدأ فصول قصة جديدة صدمت ولا تزال «المشاهدين».
منذ ان خرج الى الحرية عصر الثلاثاء، بدا واضحاً ان «التجربة المُرة» رسمت لعيتاني «طريقاً جديدة» في حياته التي عاشها في محلة «الطريق الجديدة» البيروتية، في عائلةٍ «تشرّب» منها قيم العروبة والوطنية وحب فلسطين ودعم قضيّتها والنضال لاستعادتها.
في منزل ذويه، الذي «تَسَاكن» خلف جدرانه الألم والأمل على مدى «مئة يوم من العزلة» التي عاشها زياد، لم تكن عيون والدته ولا شقيقته رنا ولا شقيقه رياض ولا ابنته لينا (9 أعوام) تصدّق ان «الحلم» صار حقيقة وان «الحق انتصر على وصمة العار التي أريد إلصاقها بنا».
الفرحة لم تكن عادية في ملاقاة زياد الذي حُمل على الأكتاف، هو الذي حَمل بيروت و«شخصياتها الشعبية» والجيران والدكاكين الى مسرحه الذي عرف نجاحاتٍ باهرة مع «بيروت فوق الشجرة» و«بيروت طريق الجديدة» وغيرها من أعمالٍ رسّختْ حفيد الممثل الكبير الراحل محمد شامل نجماً شعبياً أعاد للخشبة زمنها الجميل.
رئيس الحكومة السابق تمام سلام، وزير الداخلية نهاد المشنوق ونواب وشخصيات وأهل وأصدقاء وناس طيّبون ملأوا المنزل الذي «فاض» بالمهنّئين، فيما زياد المنهك يروي بمرارة فصولاً مبعثرة من حكايته التي «تفوق الخيال»، وسط «رقابة» من محاميه الذي أصرّ على عدم الإفشاء بأي معلومات تتعلّق بمسار التحقيق المستمرّ لكشف كل خيوط مسرحيةٍ جاءت أشبه بـ «الكوميديا السوداء» ولم تغب تفاصيلها عن مشهدية الفرح الذي غمر بيروت التي بدت وكأنها «مرفوعة الرأس».
فبين الفرحة والدمعة، و«الحمد الله عالسلامة» و«الحق ما بيموت»، كانت تتراءى خلف عيون العائلة الصغيرة الفصول المؤلمة لمسرحية «عمالة زياد لاسرائيل» التي بدأتْ في 23 نوفمبر الماضي، حين أوقف ابن الطريق الجديدة من جهاز أمن الدولة، قبل ان يتسرب الى الإعلام ما قيل انها اعترافاته، وفحواها ايقاع فتاة ثلاثينية جذّابة به تدعى كوليت تعرّف عليها عبر «فايسبوك» العام 2014، وجنّدته لجمع معلومات عن شخصيات سياسية في مرحلة أولى قبل الترويج لفكرة التطبيع مع اسرائيل من خلال «لوبي» لبناني يضم مثقفين، لتوضح المديرية العامة لأمن الدولة بعدها بأيام ملابسات توقيف زياد في بيان اعتبرت من خلاله ما جرى «عملية نوعية إستباقية في مجال التجسس وانها اوقفت عيتاني بعد الرصد والمتابعة والاستقصاءات على مدار شهور داخل الأراضي اللبنانية وخارجها، وبتوجيهات وأوامر مباشرة من المدير العام اللواء طوني صليبا»، مؤكدة «تثبيت الجرم فعلياً على المشتبه به».
ومع «سقوط» زياد على خشبة المسرح من هول المشهد، بدأ كثيرون بـ «نحره»، مقرّبين وإعلاميين و«مستفيدين». حاول ابن العيتاني ان يوصل صوته «انا بريء» من خلال عائلته، لكن لم يلق آذاناً صاغية، فالتهمة مثبتة ببيان جهاز أمني. لكن فجأة تغيّر دوره من عميل الى ضحية... تدخّل رئيس الحكومة سعد الحريري وطلب سحب الملف من جهاز أمن الدولة وتسليمه الى شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي للتوسع في التحقيقات وخصوصاً الجوانب التقنية، لـ «تنفجر» المفاجأة، وهي توقيف مُخْبر - مقرْصن (يعمل لجهاز أمن الدولة) يُدعى ايلي غبش اعترف بأن المقدم سوزان الحاج، رئيسة مكتب مكافحة جرائم المعلوماتيّة سابقاً، طلبتْ منه تلفيق تهمة التعامل لعيتاني على خلفية اتهامها لزياد بأنه يقف وراء أخذ screenshot لـ like كانت قالت إنها قامت به عن طريق الخطأ لتغريدة للمخرج شربل خليل ينتقد فيها المرأة السعودية بعد السماح لها بقيادة السيارات، قبل ان تزيلها، والتي كانت سبباً بإقالتها من مركزها أوائل اكتوبر الماضي.
ومع توقيف الحاج وبدء فصل جديد من التحقيقات معها، وتسريب معلومات عن «ملف مُحْكَم» وتسجيلات صوتية بينها وبين غبش، كان التطور الأبرز أول من امس، بإصدار قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا، قرار تخلية زياد من دون شروط ولا كفالة مالية، وإصدار مذكرة وجاهية بتوقيف الحاج بعد المقرْصن الذي دخل الى حسابات عيتاني ولفّق التهم.
خرج زياد الى الحرية، وكان له «استقبال الأبطال» في الطريق الجديدة، وسط حضور إعلامي ضخم، بعدما زار في محطته الأولى منزل الحريري في بيت الوسط.
وأمام «الحشود» وبعيون حبستْ الدموع وصوت يختنق، قال عيتاني: «ما جرى معي كقصة راجح» (شخصية وهمية في مسرحية «بياع الخواتم» لفيروز يخترعها المختار كي يخيف أهالي القرية ويجعلهم يعتقدون أنه يحميهم من شرّ مجهول)، لافتاً الى أنه «فقدتُ الأمل بالبلد كلياً في زنزانتي الانفرادية، وشعرتُ بأن هذا الظلم قد يطال كل لبناني، فالتهمة التي نُسبت إليّ بشعة ومقزّزة، وهي لا تشبه ابن بيروت، ولا الطريق الجديدة، ولا آل عيتاني»، مؤكداً «أنا علمانيّ وتلميذ مدرسة الحكمة، وأعرف كل قرى الجنوب، ولا أؤمن بالحدود الطائفية والمناطقية»، ومشيراً إلى أنه يحتاج إلى وقت ليعود إلى أجواء المسرح «فقد خرجتُ من السجن، وأنا أعاني السكري والضغط وإرهاقاً بجهازي العصبي. ويلزمني بعض الوقت لأعود إلى ما كنتُ عليه»، معلقاً على الاشخاص الذين تسببوا بما حصل معه: «موجودون لدى القضاء، الذي يتابع معهم الملف».
والدة عيتاني رفضتْ في حديث لـ «الراي» القول ان براءة ابنها ثبتت أخيراً، مؤكدة «هو بريء منذ اللحظة الأولى لتوقيفه، وأشكر القضاء النزيه، وقد بيّنت لي قضية زياد كم يوجد مظلومون في السجن. لم أر ابني خلال مدة توقيفه لكن الأخبار التي وصلتني من إخوته ان صحته لم تكن على ما يرام». وعمن اتّهمه بالعمالة علّقت «الله يسامحهم».
أما خاله ناجي شامل، فقال: «الملف كله مفبرك. نحمد الله على براءة زياد، ونطلب من الله ان يقتص من المفبركين. وكما شاهد زياد نجوم الضهر طوال فترة توقيفه، نتمنى ان يرونها هم كذلك».
وأكد مدير مؤسسة «لايف» المحامي نبيل الحلبي لـ «الراي»، ان «حرية زياد هي تبيان للحقيقة التي شكك فيها الكثيرون. والحقيقة تعني العدالة، وكمرحلة ثانية يجب إنصاف الضحية، كون القاعدة تقول العدالة والانصاف، والعدالة من دون إنصاف تبقى منقوصة، لذلك يجب محاسبة مَن يقف خلف فبركة ملف عيتاني، والتوسع بالتحقيق لكشف اسمائهم وهوياتهم وإحالتهم الى المحاكمة وتعويض زياد عن كل ما حصل معه سواء تشويه سمعته او التعرّض لسلامته الجسدية».
وأشار المسؤول الاعلامي في مؤسسة سمير قصير، جاد شحرور، لـ «الراي» إلى انه «منذ البداية طالبنا بتحقيق وفق القانون خارج أي تدخل سياسي كما شاهدنا في الفترة الأخيرة على وسائل الاعلام. كنا نريد ان تكون التحقيقات مع زياد، سرية، من دون صراعات بين الأجهزة الامنية... نريد تحقيقاً واضحاً ورد الاعتبار لزياد».
سأُحضِر ابنتك...
إن لم تعترف!
| بيروت - «الراي» |
ما حكاية «الخمس دقائق» الأولى التي تحدّث عنها زياد عيتاني، بعد خروجه الى الحرية، والتي كشف انه اعترف خلالها أمام جهاز أمن الدولة بما نُسب اليه من دون تعرُّضه للضرب، الذي تلقّاه كما قال في اليوم الرابع من توقيفه، مصراً على عدم الإدلاء بأي تفاصيل حول هذه الدقائق «التي هي بحوزة قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا»؟
وكشفت صحيفة «الأخبار» نقلاً عن مصادر التحقيق ان عيتاني وحين سأله محققو «فرع المعلومات» عن السبب الذي دفعه إلى اختلاق السيناريو الذي حبكه خلال التحقيق الأولي في «أمن الدولة»، أجاب بأنّ «ضابطاً مفتول العضلات أدخله إلى غرفة جدرانها مدهونة بالأسود. طرحه أرضاً وداس على رقبته ثم هدّده قائلاً: «سأُحضِر ابنتك (...) أمامك إن لم تعترف». وانه أثناء وجوده على الأرض، لمح عيتاني ملفاً كُتب عليه أمن الدولة، فعلم أنّ لا مفرّ أمامه سوى الرضوخ لهم. عندها سرد ما سرده اي انه أعطى المحققين - ما يريدون سماعه - وضمّنه أفخاخاً لنقضها لاحقاً بسهولة أمام قاضي التحقيق.
وحسب المصادر الأمنية والقضائية، أكد زياد أنه لم يُضرب في الأيام الثلاثة الأولى، بل في اليوم الرابع. اما حجة الضرب فكانت أنه زوّد المحققين بمعلومات كاذبة، بدءاً من التحويلات المالية التي اخترعها وصولاً إلى الفيديو الجنسي الذي لم يُعثر عليه والى التقارير التي كان يُرسلها، كما اختلق اسم كوليت من لا شيء. أما رسمها التشبيهي، فذكر أنّه تعمّد إعطاء المحققين رسماً لامرأة بعيبٍ خلقي في وجهها، بعدما كان شاهد فيلماً وثائقياً ذُكر فيه أنّ العميل يُنتقى من دون علامة فارقة.
ووفق «الأخبار»، فإن واحدة من الفضائح التي تضمّنها الملف صور لأربع فتيات سُحبت عن الانترنت، إحداها لصحافية لبنانية وأخرى لزوجة كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة، دوّن المحققون أنّها لمن يُعتقد أنّها تعود لكوليت، عميلة الاستخبارات الإسرائيلية المزعومة.