زين الشامي / جنرال الرابية في قصر المهاجرين ... وفي طريق «غير مستقيم»
1 يناير 1970
04:08 م
منذ «اتفاق الدوحة» في مايو الماضي، الذي تزامن تماماً مع الإعلان عن بدء المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل بوساطة تركية، منذ ذلك الوقت والعلاقة السورية - اللبنانية تشهد جملة من التحولات، بل إن مرحلة من التحول يعيشها الملف السوري برمته، بحيث بات واضحاً أن لا إمكانية لحصول تقدم وانفراج في علاقة دمشق مع المحيط الخارجي والدولي دون خطوات سورية إيجابية تجاه لبنان وإسرائيل. دمشق وعت ذلك وتعيه اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهي مستمرة في هذا المسار والنهج، أي المزيد من الانفتاح الايجابي البراغماتي صوب الداخل اللبناني، ومزيداً من الإصرار على السلام مع إسرائيل، وإذا كان مفهوماً لماذا الاصرار السوري على إسرائيل... نظراً لما تمثله، فإن الايجابية والبراغماتية السورية تجاه لبنان بحاجة لقليل من التوضيح.
لا يخفى أن «اتفاق الدوحة» الذي ما كان ليرى النور لولا الضوء الأخضر السوري - الإيراني، شكل النافذة والمدخل لبدء انفتاح اوروبي - فرنسي إزاء دمشق، وشكل في الوقت ذاته نقطة الانطلاقة للسياسة السورية نحو الخارج بعد أعوام من العزلة. لقد كان شرط الرئيس نيكولاي ساركوزي أنه على دمشق أن تعمل، لا أن تقول وتعلن وتتبجح، على استقرار لبنان وضمان الأمن فيه، مقابل أن تتخذ باريس على عاتقها انتشال دمشق من عزلتها وتقديمها للعالم من جديد بحلة جديدة، وكدولة أو نظام «ضرورة» للاستقرار الإقليمي. كانت الصفقة السورية - الفرنسية تتزامن مع بدء العد التنازلي لإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، وتراجع تأثير الولايات المتحدة على العديد من الملفات الإقليمية.
أيضاً، الانفتاح السوري على لبنان، والذي سمح لاحقاً بانتخاب رئيس للبنان بعد أشهر طويلة من الفراغ، والإعلان عن قيام علاقات ديبلوماسية، يأتي اليوم فيما لبنان مقبل على استحقاق انتخابي له أهمية كبيرة بالنسبة لسورية، نقصد حلفاء سورية وإعادة تمركزهم في الخارطة السياسية اللبنانية، وهم الحلفاء الذين أصاب مواقعهم الوهن والتراجع بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وخروج القوات السورية من لبنان في 2005.
في هذا السياق تأتي الزيارة التاريخية للجنرال ميشال عون إلى سورية، وهي حقاً زيارة تاريخية نظراً لما يمثله هذا الجنرال الذي خاض «حرب تحرير» ضد سورية في لبنان عام 1990، وسقط جراءها الآلاف من اللبنانيين والسوريين على مشارف قصر بعبدا الرئاسي، قبل أن يستسلم ويلجأ إلى السفارة الفرنسية في بيروت، ومن ثم ليخرج إلى المنفى الفرنسي ويتحول من هناك الى جنرال ديبلوماسي لم يتوقف عن معركة التحرير لكن دون إطلاق الرصاص، والقاء قذائف مدافع، بل من خلال الوسائل الديبلوماسية، ومستفيداً من قوة أنصاره في الشارع اللبناني خلال وجود القوات السورية.
لكن اليوم وبعد نحو عشرين عاماً على «معركة التحرير»، وبعد «معارك» و«نضالات» سياسية خاضها في الأروقة والمحافل الدولية لإخراج القوات السورية من لبنان كان أهم تجلياتها القرار 1559، ها هو الجنرال يحل على دمشق ضيفا لبنانياً مميزاً، فيما سورية ونظامها يستعدون لاستقباله استقبال الأبطال والعظام حيث يتضمن برنامج زيارته لقاء علنياً الرئيس بشار الأسد، إضافة إلى لقاء آخر مع نائبه فاروق الشرع، ووزير الخارجية وليد المعلم، إضافةً إلى عدد كبير من المسؤولين والشخصيات السورية. كذلك سيزور الجنرال مواقع دينيّة وتاريخيّة من بينها «الطريق المستقيم» الذي يصل ما بين باب الجابية وباب شرقي في دمشق والذي كان قد سلكه القديس بولس قبل ألفي عام. أيضاً سيزور الجنرال قبر مؤسس الطائفة المارونية القديس مارون، والجامع الأموي في دمشق، الذي سبق أن زاره البابا يوحنا بولس الثاني عام 2001، وسيقف أمام قبر القديس يوحنا المعمدان الموجود في الجامع، إضافةً إلى قبر القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي.
اذاً لمَ كل هذا الاحتفاء السوري، ولماذا عينا الجنرال تتطلعان صوب دمشق رغم كل الدماء التي سالت في شوارع بيروت لجنود سوريين ومقاتلين لبنانيين؟
في هذا الصدد لا بد من القول ان السياسة لا تعرف الثبات، والسياسيون هم أبعد الناس عن الأخلاق والمبادئ، ولا ننسى أن الخارطة الجيوسياسية للمنطقة تتحول مثلما هي مواقع الشخصيات والقوى والأحزاب السياسية. إنها ديناميكية طبيعية، لكن ثمة شيء يخفى على الجنرال أو ربما هو يحاول أن يتجاهله.
فمع كل محاولته التبريرية للزيارة، لم يجب الجنرال عن تساؤل واحد يتعلق بمصلحة النظام السوري من هذه الزيارة، والأهداف التي يتطلع إليها، وهل حقاً حدث تحول جذري في سياسة النظام السوري إزاء الملف اللبناني بحيث باتت دمشق تتعامل وتنظر الى لبنان على أساس أنه دولة كاملة السيادة وندية، أيضاً هل توقفت دمشق عن التدخل في الشأن اللبناني ودعم أطراف وجهات وشخصيات وقوى وأحزاب ضد أخرى، وهل نسيت دمشق «ثأرها» وما حصل لها إبان خروج قواتها غير المشرف من لبنان، أيضا هل نسي الساسة والمنظرون السوريون أن لبنان هو «جزء مسلوخ من سورية الكبرى»؟
إن كل المعطيات وما حصل من خطوات «ايجابية» و«براغماتية» سورية تجاه لبنان خلال الأشهر القليلة المنصرمة منذ «اتفاق الدوحة» لا تسمح باعطاء إجابة شافية، بل على العكس، يبدو أن دمشق تستعد للعودة إلى لبنان ليس من خلال القوات السورية، بل من خلال «قوات من الحلفاء اللبنانيين» حيث ثبت لها أنها من خلالهم أقوى بكثير مما كانت عليه إبان وجود قواتها، وقد أكد الرئيس بشار الأسد ذلك أكثر من مرة بشكل واضح لا لبس فيه. لذلك فإن اتكاء دمشق على رجل وشخصية لبنانية بحجم الجنرال ميشال عون سيكون له نتائجه الكبيرة بالنسبة لدمشق، بغض النظر عن موقع وحجم الجنرال في الشارع اللبناني بشكل عام، والمسيحي بشكل خاص.
ومن ناحية ثانية، لا بد أن الجنرال، ونتيجة للتقارير التي تتحدث عن ضعف ووهن أصاب موقعه وشعبيته في الشارع المسيحي، لا بد أنه يتطلع إلى دعم حلفاء دمشق اللبنانيين في المعركة الانتخابية المقبلة في الربيع المقبل.
بدوره، الجنرال يدرك تماماً ويعي أن موقع دمشق اليوم أفضل من السابق، وهي تحقق بعض التقدم لأنه يعرف كيف يقرأ التحولات الدولية والإقليمية بشكل جيد، وهنا يتساوى عون مع كثرة من السياسيين اللبنانيين الذين أجروا تحولاً في مواقفهم من دمشق منذ أعوام، هنا لا يحق للجنرال انتقادهم ولومهم، إنه يمارس اليوم ما مارسوه هم منذ بضعة أعوام.
على المستوى السوري الداخلي، لا يخفى أهمية هذه الزيارة، أن شخصية لبنانية بحجم الجنرال عون، وهو بنظر غالبية من السوريين «الوطني الشريف» و«العسكري المقدام»، نقول ان شخصية مثله تزور دمشق وتلتقي مع أركان النظام، الذي يعتبر بنظر الكثير من اللبنانيين مسؤولاً عن الكثير من ضحاياهم ومعاناتهم، سيتم استثمارها داخلياً للتمويه على جملة من الاتهامات والجرائم المرتكبة في لبنان منذ اغتيال الحريري وما قبله وبعده، بحيث تظهر تلك الاتهامات كما لو أنها اتهامات فريق سياسي ضد «سورية» كلها وليس كل اللبنانيين.
جنرال «الرابية» على أبواب قصر «المهاجرين»... من كان يصدق يوماً.
رحم الله «شهداءكم» أيها اللبنانيون و«شهداءنا» المساكين الذين ماتوا منذ أعوام طويلة فيما «القادة» اليوم يشربون نخب «المصالح المتبادلة» والعلاقات الأخوية.
زين الشامي
كاتب سوري