تكتسب الأعمال الأدبية أهميتها من معالجتها للقضايا الإنسانية معالجة عميقة صادقة فنيا وغير متكلفة، مع بعدها عن المبالغة والتقريرية في طرح القضية الإنسانية. وهذا ما حاولت أن تقدمه بصدق رواية «المغيسل» للأديبة والباحثة الكويتية موضي رحال. تعالج الرواية موضوعا إنسانيا يتعلق بشريحة إنسانية مهضومة حقوقها السياسية والاجتماعية والسياسية في الكويت. وهي فئة البدون أو غير محددي الجنسية، التي عانت ولازالت تعاني إلى اليوم بسبب ظروف سياسية معقدة، مثل الغزو العراقي، ساهمت في تفاقمها، وأحدثت تغيرات سياسية جذرية في توجهات الحكومة الكويتية بعد الغزو العراقي الغاشم في تعاملها مع القضية. صدمة الغزو العراقي ورد الفعل الحكومي عليها جعلت فكرة الحياة الكريمة بالنسبة لهم فكرة مستحيلة.
بداية ذاكرة القهر
تبدأ الرواية زمنيا مع بداية الحدث الذي يشكل حجر الزاوية في قراءة أحداث الرواية اللاحقة، بعد تحرير الكويت من براثن الغزو العراقي الغاشم 20/ 2/ 1991م الذي كان الحدث الأكثر تأثيرا على فئة البدون في داخل الرواية، وخارجها فعليا منذ بداية القضية. باختيار هذا التاريخ، تؤرخ الرواية لعذاباتهم الشخصية التي بدأت بهذا الحدث المفصلي الذي يعتبر نكبة بالنسبة للكويتيين ولهم وهم الذين شاطروا الكويتيين أوجاعهم وآلامهم وكأن مصابهم واحد، فراشد زوج أمينة تعرض للأسر وقتل في سجون العدو بسبب دفاعه عن الكويت الذي يعدها وطنه ويدافع عنها بكل ما يملك من قوة. إذا كان هذا الحدث السياسي الخارجي ترك الأثر الكبير في بداية الرواية فإن موت عالية يشكل أيضا حدثا مفصليا في فتح جرح حياة هذه الأسرة لتعيش صدمتها الشخصية التي تتقاطع مع أزمة البقية من البدون بشكل جمعي، كما يوضح سارد الرواية المتعاطف مع شخصيات الرواية:
«تتحرر البلد وتمضي الأيام.. لكن الأمور لم تعد كسابق عهدها لحميد وأمينة وأم حسين.. حميد خسر وظيفته دون أن يعرف الأسباب.. أمينة خسرت وظيفتها.. وازدادت الأمور سوءا.. بالتأتأة التي أصابتها منذ بداية ليلة وفاة عالية وبكونها مسؤولة عن ابنتها وابنة عالية..». (ص:22)
الأسرة المكونة من أمينة وحنان وأماني، وحسين وأم حسين وحميد، تبدأ بالتعايش مع واقعها المأسوي الناتج عن صدمة ما بعد الغزو: من فقد للوظائف، وحق التسجيل على قيد الحياة، والتعليم المجاني، وبقية خدمات الدولة التعليمية والصحية، لتقرر التعايش مع كل هذه الظروف من دون شكوى وتذمر من الكويت حكومة وشعبا.
سرد الواقع
لست بصدد تقديم عرض تحليلي مفصل للشخصيات ولكن عدد من الأسئلة التي تتبادر للذهن حولها تستحق الطرح هنا من مثل: من أين استقت الكاتبة شخصيات الرواية؟ هل بنتها مخيلة الكاتبة موضي رحال، أم أنها استقتها من الواقع المعيش المحض؟
مما لا شك فيه أن هذه الرواية تعتبر من روايات الواقعية التسجيلية التي تسجل صور المجتمع الخارجي، ومأساة هذه الطبقة الدنيا في المجتمع الكويتي من ناحية انعدام حقوقهم السياسية والمدنية، وهي أيضا دنيا بالنسبة للبدون أنفسهم، لأن البدون كما نعلم يختلفون في أوضاعهم وتصنيفهم بالنسبة للدولة، هناك من هو موظف في الجيش الكويتي، وهؤلاء هم الأفضل حالا، وهناك الموظفون بوظائف مدنية، وهناك البدون من أبناء الكويتيات، وهم أيضا يتمتعون بامتيازات معينة، وهناك فئة دنيا ليس لديها أي دخل ثابت من الحكومة، ولا حق التعليم والمعالجة الطبية، وهذه هي الفئة الدنيا التي تشتغل عليها رواية «المغيسل». أم حسين البائعة التي تأخذ من المستوصف مكانا لها، وحميد (الصبي) في منزل أحد الكويتيين، وأمينة مدرسة الرياضيات التي أصبحت بعد الغزو تقوم بتكفين الموتى، وحسين الذي بحث عن العلم وذاب وتلاشى في الغربة من دون عودة، ليترك الحسرة في قلب أمه بالتبني، وهي التي باعت عضوا من جسدها من أجل تأمين سفره ورحلته العلمية. أما حنان وأماني اللتان ترمزان للجيل الجديد الذي يحاول بناء نفسه وينهض ويحقق فكرة إمكانية بناء الذات من خلال مزاولة عدة مهن تطردان منها الواحدة تلو الأخرى وينتهي بهما المطاف إلى تعلم مهنة تحفظ كرامة الأسرة وتغير من وضعها الاجتماعي، وهي خدمة تزيين النساء المنزلية. السؤال هنا: هل هذه الصور المعروضة في الرواية غريبة على سكان الجهراء من يتقاطعون بكثير من العلاقات الإنسانية مع البدون، أم حسين مشهد يتكرر كثيرا أمام المستوصفات، والأسواق الشعبية والجمعيات، وأمينة وأماني كذلك. فما هو الجديد في الرواية؟
الجديد هو أن الكاتبة استطاعت كسر ألفة الأشياء، أليست إحدى سمات الأدب أن يجعلنا ندرك الأشياء المألوفة بطريقة مختلفة، هذا ما حدث، بالفعل، مع شخصيات «المغيسل»، إذ بدأنا كقراء نلتفت إلى الجانب الخفي وغير الملموس من معاناة البدون، الحياة الشخصية وكل ما تحمله من انكسارات وأحزان في حياتها، ورغبة ملحة في البقاء ومواجهة قسوة الحياة، بحجز نافذة أمل ضئيلة على شرفات الحياة، كافية لتستمر هذه الأسرة في العيش مثلما يعرض السارد للوضع النفسي لأمينة المتشظي بين اليأس والرجاء: «في واقع لم تختره.. عاشت أمينة تعلل نفسها بـ (الله كريم) تخفف آلامها بكلمة (بكرة تفرج).. أحاديث الكرب أدعية الهم والحزن صارت وردها اليومي.. أمينة تصبح لتحمل حنان وتذهب للمغيسل.. لتعود عصرا.. محملة بأوجاع لا حصر لها». (ص:31)
بين الإخبار والتخييل
من اللافت أن نوفيلا رحال ذات الـ (113) صفحة، ليست رواية تصوير وتحليل وانعكاسات لعالم الشخصيات، بقدر ما كانت رواية إخبار، إخبار الأحداث والتفاصيل الكبرى بحياة الشخصية، إذ لم تأخذ الرواية الطابع التحليلي العميق للشخصيات، بل اكتفت بسرد حركة الشخصيات وتأثرها بالأحداث إيجابا وسلبا، من دون الدخول إلى عمق الشخصية، وتحليل مواقفها ورؤاها بتفاصيل تتيحه لها تقنيات الرواية المتعددة، والتي اقتصدت الكاتبة كثيرا منها. تعتمد الكاتبة تقنية السرد التقليدي بسارد خارجي متعاطف بشكل كبير مع الشخصيات، يسرد لنا القصة، ويعلق تعليقات بسيطة على الأحداث، ورد فعل الشخصيات، وسرد متساوق يبدأ فعل السرد مع بداية الحكاية، فلم يعتمد على الاسترجاع إلا ليخبرنا ببعض التفاصيل المتعلقة بالشخصيات من مثل: إن أمينة كانت مدرسة، وأم حسين ليست أمه الفعلية، بل هي خالته، وقد اضطرت إلى بيع أحد أعضاء جسدها من أجل تأمين سفره إلى الخارج.
قد يكون لنا الحق بوصفنا قراء القرن الحادي والعشرين بمساءلة طريقة سرد الرواية بشكل تقليدي، واستخدامها لواحدة من أقدم أنواع الواقعيات، وهي الواقعية التسجيلية، مع العلم إننا في عصر أنتج الكثير من الآليات والمدارس، والتقنيات السردية، التي بإمكاننا من خلالها أن نقدم التقليدي بإطار ما بعد حداثي مشوق وقادر على إدهاشنا بدلا من إعادة تصوير الواقع الماثل أمام أعيننا كما هو. بالإضافة إلى عامل إمكانيات الكاتبة الإبداعية، قد تكون الإجابة الأكثر منطقية هنا، هو إن أزمة البدون والانتماء بكل ما تفرضه من فقر وحرمان وجوع وانعدام لتحقق فكرة الإنسان الكامل هي أزمة تعود بنا إلى بدايات القرن الماضي، بكل تفاصيله المأسوية، من حروب وهجرات وفقر وعدم استقرار و انعدام للاعتراف السياسي بالجماعات الإنسانية المهاجرة، والذي انتج أدبا واقعيا تسجيليا، يعتمد على سرد تقليدي وفكرة الصراع الكبرى بين أشخاص وأشخاص، بدلا من رصد وتحليل للعوالم الداخلية للأشخاص، وهي أكثر الطرق المستخدمة منذ ستينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا. فكيف نطلب التعبير عن أشد المواضيع مأسوية، بسرد ما بعد حداثي يشتغل على دائرة أخرى من مواضيع التحقق الإنساني المختلف عما مضى لشخصيات تعاني من أزمة وجودية كبرى.
النهاية الدائرية:
لقد بدأت أفعال الشخصيات في محاولة الاستمرار على قيد الحياة، بالمغيسل، وهو عنوان الرواية ذي القيمة الدلالية الكبرى في تحليل حياة الشخصيات، فلم يكن هناك سبيل أمام أمينة لإعالة الأسرة، إلا المغيسل، وهو مكان غسيل الموتى، الذي دخلته مؤقتا هي والطفلة حنان، من عايشت صور الموتى والعويل والأدعية بدلا من المدرسة، وقلت حصيلة معجمها اللغوي لعدم استخدام اللغة بمستويات متعددة من الحوار مع الآخرين، وأمينة التي صاحبتها التأتأة منذ أول يوم من أيام الفجيعة، كمظهر من مظاهر «صدمة ما بعد الحرب» والفقد، للإشارة إلى العوالم النفسية للشخصيات التي أخرستها الأحداث الصادمة، واتشحت بالسواد والتزمت بالصمت. لم ترض الأجيال الجديدة باستمرار الوضع على ما هو عليه، وقررت الخروج من هذه الدائرة، وبالفعل نجحت في الخروج من خلال إيجاد مهنة التجميل التي تدر أرباحا لهم تؤمن لهم الحياة الكريمة، ولكن ما إن خرجت، وهي تتوسل كل آليات بناء النفس، حتى اقتنصها القدر من جديد، بموت أمينة وأماني ونجاة حنان، بحادثة حريق مكان الحفل، الذي دعين إليه، واعتقد أن الكاتبة تشير إلى حريق شهير حدث في الجهراء ذهبت العديد من النسوة ضحية له. وإذا بأمينة وأماني تعودان إلى المغيسل مرة أخرى، كإشارة إلى موت الأماني. تنتهي الرواية بمأساة جماعية كما ابتدأت، وتحققت النهاية الدائرية، فالمغيسل الذي عملت به أمينة عادت إليه مرة أخرى ولم تستطع الفكاك منه.
نعم استطاع الجيل الجديد متمثلا بحنان وأماني أن يخرج من هشاشة شخصيات الجيل السابق في أن تتعاملا مع واقعهما المأسوي بإيجابية، وبالتالي تكون الكاتبة طرحت صورة من الصور الواقعية من تعايش البدون مع أوضاعهم المختلفة، ولكن إذا كانت الكاتبة تتبنى الرؤية الإيجابية، في طرح الحل بالعمل والمحاولة الدؤوبة، فكيف تكون النهاية مأسوية هكذا؟! لقد شيدت الكاتبة شخصيات روايتها محملة بسلاح الأمل والتفاؤل، وهدمت هذا العالم بحادثة الموت الذي قلب كل شيء وأعاد الشخصيات إلى الدائرة الأولى من الهشاشة والضعف، هل هذا كان نتيجة لنقل أمين لتجربة حقيقية، أم لأن الكاتبة وقعت تحت فخ إن البؤس والشقاء لا يمكن أن يولد إلا البؤس والشقاء. بوجهة نظري المتواضعة كان يتعين على الكاتبة أن تنهي الرواية بنهاية إيجابية ليست على غرار النهايات الفكتورية بالتأكيد، وهذا ليس لأننا نريد تزييف الواقع، ولكن بما إن الرواية بدأت في خط تحدي الظروف وعدم اليأس والمثابرة، فلا بد من الاستمرار على نفس طريقة المعالجة. وإلا هذا يعطي إيحاء لأي شخصية معذبة، إنك مهما كنت إيجابيا ومكافحا فإن قناص القدر سوف يقنصك ذات يوم.
* ناقدة وأكاديمية كويتية
موضي رحال، رواية «المغيسل»، نوفا بلس، الكويت، الطبعة الأولى، 2014م.