رؤى

هَلْ أَدارَ الإسلامُ ظهره للشِّعر والشعراء... وبغّضه إلى المسلمين؟!

1 يناير 1970 09:02 م

ثمةَ أسئلةٌ مهمَّةٌ في مسألة موقف الإسلام - قرآنًا وسُنَّةً - من الشِّعْر والشُّعراء: هل أدار الإسلام ظهره للشِّعْرِ، وأعرض عن الشُّعَراء؟ وهل حقِّا قصد الإسلام إلى تهجينه وتبغيضه إلى المسلمين؟!. إنَّ أهل العلم في ذلك ما بين مؤيِّدٍ ومعارضٍ: فأمَّا المؤِّدون فيستدلُّون بقوله تعالى: «والشُّعَراء يتَّبِعُهُم الغاوونَ * ألم تر أنهم في كلِّ ودادٍ يهيمون* وأنَّهم يقولون ما لا يفعلون». وأمَّا المعارضون فيذهبون إلى أنَّ هذا الفهم للآية الكريمة فهمٌ خاطئ، كما يقول ابن رشيق في كتابه «العمدة»: فأمَّا احتجاج مَنْ لا يفهم وجه الكلام.
 في هذه الآية فهو غلطٌ وسوءُ تأمُّلٍ؛ فالمقصودُ بهذا النَّصِّ القرآنيّ شعراءُ المشركين الذين تناولوا رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّمَ- بالهجاء وسوء الأذى، وأمَّا مَنْ سواهم من المؤمنين فغير داخلٍ في شيء من ذلك. ويؤكِّدُ الدكتور صلاح الهادي على هذا المعنى بقوله «إنَّ هذا الفهم للآية الكريمة مجرد وَهْمٍ غزا العقول قديمًا، وأنَّ التعميمَ في الأحكام خاطئ». وفي تفسير الطبري: «رُوِيَ أنَّهُ لمَّا نزلت هذه الآية جاء حسَّان بن ثابت، وعبدُالله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله وهم يبكون، فقالوا: «قد علم الله أنَّا شعراء»، فتلا النبي عليهم الاستثناءَ الوارد بعد التعليل في هذه الآية الكرية: «إلَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرًا وانتصروا من بعد ما ظلموا». ويوضح ابن رشيق في عمدته هذا الاستثناء بقوله: «... يريد شعراء النٍّبيّ- صلَّى الله عليه وسلَّم- الذين انتصروا له، وأجابوا المشركين عنه».
والحقُّ أنَّ مَنْ يتتبَّع مواقف الرسول مِن الشِّعْر والشُّعراء- سواء أكانوا جاهليين أم في صدر الإسلام- يقف على حقيقة لا جدال فيها، وهي أنَّه- صلَّى الله عليه وسلم- كان محبًّا للشعر الهادف الدَّاعي للقيم والمثل السامية التي أقرَّها الإسلام الحنيف، منكرًا الفاحش منه، الدَّاعي إلى العصبيَّة الجاهلية والعبوديَّة لغير الله - تعالى- فها هو الرسول- صلَّى الله عليه وسلم- كما ورد في تفسير القرطبيّ- يطلب إلى عكرمة بن عباس أن ينشده شعرًا لأمية بن الصلت - أحد شعراء الجاهلية- فأنشده قوله:

وقد علمنا لو أنَّ العلم ينفعنا
أنْ سوف يلحق أخرانا بأولانا
ألا نبيُّ لنا منَّا فيخْبرنا
ما بعد غايتنا من رأس محْيانا

فيقول النبي معبرًا عن إعجابه بقول أمية: «إنْ كاد أُميّة ليسلم». كما كان النبي متذوقًا للشعر وناقدًا لبعض معانيه؛ فعندما سمع بيت لبيد بن ربيعة العامري: «ألا كلُّ شيء ما خلا اللهَ باطلٌ»، قال النبي: «صدق». وعندما سمع الشطر الثاني منه «وكلُّ نعيم لامحالة زائلٌّ»، قال: كذبَ، إلَّا نعيم الجنة لا يزول. وهاكم مثالًا آخر على حب وتقدير الإسلام والرسول- صلَّى الله عليه وسلم- وأنه كان يهتز للشعر، وينفعل به، ويتذوقه، ويتأثر به قصة كعب بن زهير صاحب قصيدة «بانت سعاد» مع رسول الله، وقد أوردها العلامة ابن القيم في «زاد المعاد»، وكذا ابن هشام في السيرة، وابن سلَّام في طبقاته، حيث كان الرسول قد أهدر دمه؛ لسبِّه الإسلامَ والنبيَّ في أبياتٍ أرسلها لأخيه بُجًيْر بن زهير عندما أسلم، ومنها:

شربتَ مع المأمون كأسًا فانهلكَ
المأمونُ منها وعلَّكا
وخالفتَ أسبابَ الهوى، واتَّبعتَه
على أيِّ شيء وَيْبَ غيرك دلَّكا
على مذهب لم تلف أمًا ولا أبًا
عليه، ولم تدرك عليه أخًا لكا

 ويقصد بالمأمون هنا الرسول؛ فقد كانت قريش تسميه بالمأمون والأمين قبل البعثة والنبوة. و(الوَيْب: الهلاك)! فلما أنشدها بُجًيْر على الرسول، قال - صلى الله عليه وسلم - معلِّقًا: «سقاك المأمون» صدق، وإنه لكذوب، أنا المأمون، ولما سمع قوله: «على مذهب لم تلف أمًا ولا أبًا عليه»، قال: أجل، لم يلفَ عليه أباه ولا أمَّه. فحذَّره أخوه بُجَير من وعيد الرسول له إلَّا أن يأتيه تائبًا، فهام كعب على القبائل أن تجيره،فلم يجره أحدٌ، فلمَّا ضاقت الأرض في وجهه أتى أبا بكر، وتوسَّل به إلى الرسول، فأقبل به على الرسول، وأنشده هذه القصيدة يعتذر فيها إليه، ومنها:

أُنبئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني
والعفوُ عند رسول الله مأمولُ
مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

 فتأثر الرسول، وعفا عنه، وخلع عليه بردته الشريفة تقديرًا له!، وتروي أمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم- بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرًا ينشد عليه الشعر. وفي سير أعلام النبلاء: أنَّ النبي عندما هجاه المشركون، قال: من يحمي أعراض المسلمين ؟ فقال حسان: أنا. فقال له النبي: «أجب عني، أيَّدك الله بروح القدس». وفي رواية أُخْرًى: (اهجهم، وهاجهم، وجبريل معك) وفي السيرة لابن هشام: أن النبي حين دخل مكة معتمرًا قدًمَ بين يديه عبدالله بن رواحة، الذي أخذ بخطام ناقته القصواء، مرتجزًا بأبياتٍ منها:
 (خلُّوا بني الكفار عن سبيله... خلُّوا، فكلُّ الخير مــع رسوله) ( ياربّ إنِّي مؤمنُ بقيـلِهِ... أعرفُ حـقَّ الله في قَبوُلِه)
وفي رحاب الإسلام وروضة النبي تربَّى الصحابة- رضي الله عنهم- فكان لهم من الشعر ذاك الموقف الذي علمهم إياه رسول الله، وكان بعضهم شعراء، ولهم قدم وساق في ميدان الشعر، فأبو بكر الصديق كان شاعرًا، وله قصائد شعريَّة تزخر بها كتب الأدب وكتب السيرة، وأما الخليفة عمر بن الخطاب فقد قال عنه ابن عباس: «ما رأيت أروى من عمر، وكانت فيه ملكة الشعر، وقد جاشت به نفسه أحيانًا». وقال عنه الأصمعي: «ما أبرم عمر أمرًا إلَّا تمثَّل ببيت شعر». ويروى أنه اشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم! بعد أن أمر بحبسه عندما هجا الزبرقان بن بدر سيد بني تميم بقوله: (دع المكارم لا ترحل لبغيتها... واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي)، والإمام علي بن أبي طالب كان شاعرًا مرهف الحس، ومن أشعاره: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها... إلا التي كان قبل الموت بانيها.
ولعل بعد ذكر مثل هذه الأمثلة يتبين لنا أن الرسول كان محبًّا للشعر الهادف المتضمِّن القيم الفاضلة التي جاءت به رسالته الإسلامية الغرَّاء، وأنَّه كان متذوَّقًا إياه، ناقدًا معانيه، وهذه دلالة حبًّ للشعر، لا كراهة، بيد أنه كان يعرض عن الشعر الذي تدور موضوعاته حول نهش الأعراض، وإثارة الضغائن والأحقاد والفخر بالأحساب والأنساب، وقال في ذلك: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه (يفسده) خير له من أن يمتلئ شعرًا». ويلخص لنا الدكتور صلاح الهادي موقف الرسول من الشعر بقوله: لم يكن الرسول يرفض الشعر بعامة، ويعرض عن الشعراء أجمعين، فقد أقبل على ما حسُن منه، ووافق الحق من الأشعار الجاهلية وغير الجاهلية، ولم يتضمن ما ينافي الإسلام وتعاليمه وآدابه. وللحديث بقية إن شاء الله.