... ثانيا: الصورة السلبية:
من قال بأن الشاعر لا يحاسب على ما يقوله شعرا؟ ألم يهدر الرسول صلى الله عليه وسلم، دم الشاعر كعب بن زهير، لإساءته؟! ألم يسجن الخلفية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الشاعر الحطيئة بسبب بذاءة لسانه، ألم يهدم قائد الشرطة داري الفرزدق وجرير، لتهاجيهما المقذع الذي طال الأنساب والأعراض؟! ألم يقذف سيف الدولة المتنبي بالمحبرة ويشج رأسه بسبب كذبه في المدح، ألم يقتل المتنبي بسبب هجائه لإحدى القبائل؟! ألم يجلد الشاعر بشار بن برد مرتين بسبب سلاطة لسانه وهجائه المقذع؟ ألم تطرد قبيلة نمر، شاعرها الراعي النميري، بسبب تحيزه مع الفرزدق ضد جرير شعرا؟ والأمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لبسطها كلها ها هنا، فعندما يقول أحد فحول الشعر النبطي مادحا أحد أفراد الأسرة الحاكمة بوجوده، قائلا:
• يا سيدي ما انت بشيخ لأنك تعطي وكفك تجزل العطيه
• يا سيدي ما انت بشيخ لإنك خليت من دولتـك عالمية
• يا سيدي ما أنت بشيخ لإنك سياسي ولك رؤية سياسية
• لكن حاكم فيــك ذي وهـاذي وهـاذي وهـاذيه وهـاذيه
نقول لهذا الشاعر: ماذا تركت لنا وماذا أبقيت له؟! فالعطية وجزلها، والدولة العالمية، والرؤية السياسية، تراها أيها الشاعر من الأمور العادية التي من الممكن أن يقوم بها أي شخص ليس بحاكم أو شيخ، لقد جردت ممدوحك من كل ذلك، واسعضته بـ «ذي وهاذي وهاذي وهاذيه وهاذيه» ونحن بدورنا كمتلقين نريد أن نعرف ماذا تحمل هذه الإشارات؛ حيث إنك لم تترك لنا شيئا إيجابيا نخمنه أو نتوقعه، فهل أردت الذم بمعنى المدح، أم أردت المدح بمعنى الذم، من حقنا أن نعرف ماذا تقصد بـ «ذي وهاذي وهاذي وهاذيه وهاذيه»، جاء في حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولي:
• بلغنا السماء مجدنا وجدودنا.. وأنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
• فقال النبي صلى الله عليه وسلم، أين المظهر يا أبا ليلى؟
• فقلت: الجنة يا رسول الله، فقال: «أجل إن شاء الله».
مثلما هناك حرمة للناس والأوقات والأماكن، أيضا هناك حرمة للألفاظ، فليس من حق الشاعر أن يستبيح حرمة الألفاظ، ليلوث بها مسامع المتلقي، ويخدش حياءه، يقول أحد فحول شعراء الشعر النبطي في عجز بيت من قصيدة:
• يوم حازت من أمامي عمدا واحمر المؤشر
من يسمع هذا البيت ويشاهد الشاعر وهو ينشده، يستغرب من الطريقة الشهوانية التي أراد الشاعر أن يستثير بها غرائز المتلقي، وهو يرى ردة فعل الجمهور وأكثرهم من الشباب في سن المراهقة، وقد هاجت غرائزهم فعلا، ونحن بدورنا نقول للشاعر: هل تعي ما معنى (مؤشر) لغة عندما استخدمت هذه اللفظة، وكيف يكون شكله ورسمه، ولا أدري ما رأي لجنة التحكيم التي سمعت شطر هذا البيت.
لقد اعتنى الشعراء الأوائل ببدايات قصائدهم ومطلعها، فكما يقال (الانطباعات الأولى تدوم)، وأكثر نقاد الشعر قد أفرد بابا أو فصلا للحديث عن مقدمة القصيدة ومطلعها، يقول الناقد والأديب المصري الدكتور أحمد بدوي «عني نقاد العرب بمطلع القصيدة عناية فائقة؛ فطلبوا الشعراء بأن يبذلوا غاية الجهد في إجادته وإتقانه، علما منهم بقوة الأثر الأول في النفس، وأنه يدفع السامع إلى التنبيه والإصغاء، إن كان جيدا آسرا، وإلى الفتور والانصراف إن كان ضعيفا فاترا. ولذا عني الشعراء به، وصرفوا همهم إلى الإبداع فيه، وبلغ كثيرا منهم في ذلك مقاما محمودا» أ.هـ.
«كما شرطوا أن يكون الذوق المرهف المهذب مصدرها وينبوعها؛ فلا يكون فيها ما يشتم منه رائحة تشاؤم أو تطير، أو تشمل ما لا يصح أن يوجه به الخطاب إلى السامع، أو أن يكون في عبارتها ما قد يثير في ذهن السامع ما لا يريد الشاعر أن يتجه إليه الذهن» أ.هـ (انظر: كتابي الموشح والعمدة).
فمن البدايات النشاز وغير المستساغة وبحضور حاكم، ولعل الحاكم حينما سمع مدخل القصيدة بهذا البيت، اهتز والتفت يمينا وشمالا، وبان عليه عدم الرضى أو قل مرارة التذوق لهذا المدخل، ولكنه لم يرد إحراج الشاعر، والشاعر هنا لم يضع اعتبارا لمكانة الحاكم، ورسمية المكان، ولم يحترم المتلقي أيضا، فبدأ بداية سيئة جدا، حيث يقول:
• اص ولا أسمع نفس... لعن الله أبو من يقول المرجلة ليس بسموك.
إن مخاطبة الأمراء والملوك لها آداب خاصة، والقرآن أيضا حثنا على ذلك من خلال قصة بلقيس وسيدنا سليمان، وهذا بيدبا فيلسوف الهند، حينما دخل على الملك دبشليم وهو أحد تلاميذه، حياه تحية الملوك وجلس بأدب وصمت، ولكن حينا نجد أحد فحول الشعر النبطي يخاطب جلالة ملك دولة بهذه اللهجة:
• حنا ترى... العريقة وأنت عارف ويش.
لهجة لا تخلو من التهديد والوعيد، وليس المدح والتبجيل اللذين أرادهما الشاعر، ولو قسمنا هذا الشطر من البيت نقول: (حنا ترى) هنا انتقل المدح لجلالة الملك إلى فخر الشاعر بقبيلته، ونحن لا نختلف مع الشاعر بفخره لقبيلته، بل نحييه على ذلك، ولكن نقول للشاعر ليس المقام هنا مقام الفخر بقبيلتك، إنما المقام هو مدح جلالة الملك وإبراز مناقبه ومآثره وأفعاله الطيبة التي سوف تجزى عليها وتغدق عليك الأموال، فكلمة (حنا = نحن) هذا الضمير المنفصل يفيد الخصوصية والفخامة للنفس والاعتزاز بالذات، ولفظة (ترى) تعود على الممدوح جلالة الملك، وهي مشبعة بالتهديد والوعيد، ثم يأتي الأسوأ من ذلك حينما قال الشاعر موجها كلامه صراحة لجلالة الملك (وأنت عارف ويش...)، فاستخدام الضمير المنفصل للمخاطب (أنت) بهذه الصورة، تقليل من شأن وحجم الممدوح وتجريده من ألقابه المتعارف عليها، وهذا لا يليق بجلالة الملك الممدوح، لا أريد أن أشرح أكثر من ذلك لكي لا أقسو على الشاعر أكثر، وأكتفي بهذا القدر.
* كاتب وباحث لغوي كويتي
[email protected]